شهادة في حق المرحوم الشاعر الطاهر دحاني
شهادة في حق الشاعر المرحوم الطاهر دحاني، أورسالة مشفرة إلى بعض خلصائه – عبد القادر سباغ ٭
باسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ثماني سنوات مرت على وفاة الشاعر والأستاذ الطاهر دحاني، مرت كمر السحاب في غفلة من أعين الأصدقاء والخلان، أصدقاء الأدب والمهنة… قد يجد كل واحد منا مسوغا لهذا التغييب/ النسيان في مشاغل الوقت وفتنة الحياة اليومية… وتلك واحدة من أعطاب واقعنا المعيش. أستهل شهادتي بهذا الإقرار الصريح والجارح لذواتنا نحن هنا والآن لأنني أعي مسبقا أن قدر الإنسان العربي في الحياة كما الممات منذور للصدفة والنسيان.
إنه لمن دواعي الفخر والابتهاج أن تتلقف قصب السبق والمبادرة مؤسسة أدبية صغيرة بحجمها، كبيرة بأصحابها ونشاطهم الأدبي الدؤوب مثل مؤسسة الصالون الأدبي ، وأن تسم دورتها هاته لجائزة الشعراء الشباب بإحياء ذكرى فقيد القصيد والنكتة، الأستاذ والشاعر الطاهر دحاني رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه. حقيقة أن مثل هذا المقام بقدر ما يثير في دواخلنا كثيرا من التحسر والأسى على فقيدنا بقدر ما يجعلنا نستشعر بعض الأمان والطمأنينة على أسماء مبدعة وسمت بحق مسار الشعر المغربي في شرق المغرب بميسمها الخاص، بعيدا عن ضوضاء المتقولين والمتربعين على عروش الشعر باسم زبونية النشر والتوزيع. فماذا عساني أستحضر من ذكريات بعض مضي ثماني سنوات على رحيل الفقيد؟
كانت معرفتي الأولى وأنا لازلت في رعيان الشباب بالأستاذ الفقيد عندما التحقت بسلك التعليم الثانوي إلى ثانوية زيري بن عطية مع مطلع سنوات الثمانين، فخلال السنة الثالثة أي الباكلوريا قيض الله لتلامذة قسمي أن يكون الأستاذ الطاهر دحاني أستاذنا لمادة اللغة العربية، ولازلت أذكر أول حصة معه، حيث تعرفت شابا أسمر اللون متوسط القامة تعلو محياه مسحة من الحزن تتراءى عبر نظراته السريعة، وبحة صوته الخفيفة وقتذاك. كانت الساعة التاسعة صباحا حيث اتخذ له من أحد أركان القسم موقعا للنظر في وجوه التلاميذ وهو يطلب منا أن ندون على قصاصة من ورق معلومات شخصية عن الاسم والنسب والسن، والهواية، وسرعان ما فاجأنا بسؤال لم نكن نعهده من قبل أساتذتنا سابقا: ما عنوان آخر كتاب قرأتموه؟
لقد وجم الجميع إلا ثلاثة كنت أحدهم. فانبرى كل واحد منا يذكر عنوان الكتاب الذي قرأه، والأستاذ يساعده على تذكر مضمونه بلطف غير عابئ بما كان يعتور كلامنا من ركاكة في الأسلوب ولحن في اللغة، وهو يردد: » جميل، جميل… » أما الآخرون ممن لم تسعفهم ذاكرتهم على استحضار عناوين بعينها فتوجه إليهم بقوله » إن التفوق في الشعبة الأدبية لا يحصل بقراءة المقرر والكتاب المدرسي، ولكن بالقراءة الحرة وتلخيص المقروء… » . وقتها ونحن حديثي العهد بالأدب وطقوسه لم نكن نعي فحوى هذا الكلام إلا أن الأستاذ حريص كل الحرص على أن نقرأ ونقرأ. ونحاول أن نكتب…
كانت تلك أول ذكرى فارقة لتتوالى بعدها شهور اللقاء شبه اليومي مع أستاذ ظريف متفرد في أسلوب تدريسه، يتحدث بلغة أشبه بلغة الشعر، يسحرنا بتصويره الفني العجيب لأعلام السلفية وشعر النهضة… يمسرح فضاء التعلم بما يضفي عليه من تشكيل خيالي وتعبير بلغة الجسد، والنكت، والحكايات الشعبية، فلم نكن نسأم من حصصه كما هو حالنا في مواد أخرى. وقد زاد إعجابنا بأستاذنا حرص كثير من تلاميذ الأقسام الأخرى على الحضور إلى درجة كانت القاعة تضيق عنهم، وهو بلطفه يسرح بعضهم ويعدهم بحصص أخرى. وإذا نسيت فلن أنس من مستملحاته الهادفة والذكية كيف أنه مهد لأحد النصوص القصصية وأعتقد أنه لمحمود تيمور بعنوان » حامل الأثقال » وليقرب لنا مفهوم الرمز والرمزية بعيدا عن التقعيد النظري بحكاية بسيطة ارتجلها عل عادته : هل تعرفون يا إخوان أين أسكن / نعم يا أستاذ بالقرب من طريق الصحراء/ حسب تصوركم: ما هي الطريق التي قد أسلكها في مجيئي إلى الثانوية/ الطريق المؤدي إلى باب سيدي عبد الوهاب أو السوق ومنه إلى شارع المغرب العربي، أو طريق عصفور …الخ » وهو كذلك » فهل تعرفون ما الذي صادفته هذا اليوم بالقرب من باب سيدي عبد الوهاب. جماعة من الباعة المتجولين يطاردهم المخازنية، وإذا واحد من الباعة تنتزع منه عربته بالقوة، وهو يصيح وراء المخازنية: » أعطوني غير الميزان، أعطوني غير الميزان… »/ » فلماذا حسب رأيكم يطالب بالميزان، ولماذا الميزان دون العربة ومحتوياتها؟؟ وهكذا توالت أسئلة الأستاذ وهو يولد بعضها من بعض كأنه سقراط، وينصت لإجابات التلاميذ…ولم ندر كيف أنه انتهى بنا عبر هذا التفاعل الحواري الممتع، إلى أن البائع المتجول رمز للإنسان الكادح أمام جبروت السلطة والاستغلال، يطالب بالميزان رمز العدالة والعيش الكريم…
ثم تمر السنون تباعا وتتعزز علاقتي بأستاذي لتأول إلى صداقة تلميذ بأستاذه، فزميل في مهنة التفتيش، وأتدرب معه لبضعة أشهر على زيارات الأساتذة، وإلقاء الندوات التربوية، إلى جانب أستاذي الفاضلين أطال الله في عمريهما: الأستاذ الشاعر بنصر جباري، والأستاذ الكريم أحمد فريد الدرفوفي. أجالسه في المقهى بصحبة بعض الأصدقاء والأستاذ الطاهر يتصدر يوميا الطاولة بقفشاته وأحاديثه عن أخبار الجرائد. نقرأ سويا بعض القصائد المنشورة بالملحق الثقافي لجريدة العلم، نتبادل الرأي فيما يصدر من منشورات أدبية وبخاصة منها الشعرية، نمارس بعض النميمة فيما يتصل بالساحة التعليمية والحياة الثقافية، نتحدث في شؤون الحياة اليومية وسياسة الوطن والعالم، والأستاذ الفقيد بتخريجاته ومفارقاته يفسر مظاهر انتهازية ووصولية بعض المسؤولين من المثقفين وغيرهم…نتقاسم براد الشاي، كما نتقاسم علبة السجائر، نداري ضعفنا حينا ونجهر حينا بنزواتنا، يحدثني من حين لآخر عن آخر قصيدة للرباوي قرأها عليه وهما معا، قبل التحاق الشلة بطاولة مقهى (المنظر الجميل)، أومقهى (الغراف)…يطلعني عن أسباب نزول بعض القصائد الحميمية لشعراء خبرهم بالمعاشرة والصحبة في ماضيه أو حاضره أمثال حسن الأمراني، ومحمد علي الرباوي، والمرحومين حموشي سلام، ومحمد بنعمارة، يرشف قهوته الأولى قبل أن يطلب براد شاي مشترك إذا طال الجلوس، يفتح الجريدة، أول ما يطالع أخبار الوفيات وكأني به يترصد نحبه في كل آن، أو يطمئن على وجوده حيا هذا الصباح… قد يحدث من حين لآخر أن يطلعني على آخر قصيدة كتبها جوابا عن سؤال كثيرا ما كنت أوجهه له : هل من جديد ياسي الطاهر؟ وهو كعادته يمزج الجد بالهزل ويبدي حرجا وتسترا – لست أدري لماذا؟… لم يقرأ علي قط في يوم من الأيام قصيدته بصوته وإنما يسلمها لي لأقرأها بصمت وأبدي له وجهة نظري السريعة… السي الطاهر هو السي الطاهر دائما سيد الجلسة يتكلم ويقهقه، يسابق الزمن بقوة الحضور، وشغل فضاء الزمن بالكلام والتعليقات الساخرة. هو هو بقدر ما يبدو لمن لا يعرفه عن قرب، منشرحا ضحوكا مازحا بقدر ما هو حزين لمكر الزمن، وبؤس الوطن … هذا هو سي الطاهر رحمة الله عليه لمن لا يعرفه، أو يعرفه ولا يعرفه. هذا هو سي الطاهر الذي بغيابه انفرط عقد أصدقاء المقهى، فلم يعد لشلة الطاهر وجود منذ أن التحق بالرفيق الأعلى فقد كان رحمة الله عليه إلى الأبد بمثابة الشمس المشرقة، والمحترقة يوميا والتي تدور حولها سائر الكواكب متعهم الله بالصحة والعافية ، فليتذكروا دوما صديقا لهم اسمه الطاهر دحاني الإنسان الإنسان بقوته وضعفه، وشاعرا مقلا يستحيي من كتابة لا شعر، لأنه يحترم الإبداع الفني، ويقدر مسؤولية الكلمة أمام الله عوجل، وأمام الوطن.
أعتذر لأستاذي الفقيد، إن لم أوفه حقه من الصدق فيما أعدده من مآثره وخيراته، وللحضور الكريم في هذا المقام البهيج إن اقتصرت في شهادتي على مناحي جزئية من الحياة اليومية كما عشتها برفقة المرحوم، خلال ثلاثة عقود إلا قليلا، ولازلت أعتقد أن ما أدرجته ضمن شهادتي هاته من إشارات وتلميحات رغم اقتضابها تنطوي على حكايات طويلة يعي مغازيها ممن قيض له أن يصاحب الفقيد في جلساته، ويشاطره آلامه وآماله…ولذلك قلت في مستهل شهادتي أنها بمثابة رسالة مشفرة إلى بعض خلصائه ممن أثثوا معه مسرحية حياة عظيمة أخرجها الفقيد في جلساته اليومية بالمقهى ولم يكتب لها أن تكتمل وتدون . وإذ لم أقف عند مسيرته الإبداعية في تفاصيلها الجمالية والفكرية لأنني أعلم مسبقا أن كثيرا من قرائه سيهتدون إليها بيسر من خلال تصفح ديوانه المشترك مع الشاعرين محمد علي الرباوي وحسن الأمراني الذي صدر سنة1975 والموسوم ب » البريد يصل غدا » وكذلك من خلال بقية أشعاره التي نشر بعضها بعد وفاته في أضمومة شعرية بعنوان » الموناليزا والصعلوك » وأعتقد أن كثيرا من أشعاره لازالت في حكم الغياب… ولعلي لا أكون مجانبا للصواب إذا اختصرت سمات تجربته الإبداعية في المناحي التالية : – المفارقة الساخرة- شعرنة اليومي- استيحاء التراث الجاهلي وبخاصة منه تجربة الشعراء الصعاليك بقصدية تستجيب لطبيعة الفقيد النفسية والاجتماعية- مسرحة المشهد الشعري- استخدام بعض تقنيات الفن السينمائي- العبارة الشعرية المقتضبة والمكتنزة دلاليا- الحضور المكثف للخصوصية المحلية لشرق المغرب- الإيقاع المطرب المستلهم لإيقاعات الأغاني الشعبية- الرؤية السوداوية الملفعة بالخطاب الساخر- التغني بهموم الذات والوطن- القلق الوجودي المتجذر في النفس الإنسانية- هاجس الموت والانتصار للحياة على طريقة طرفة- التأنق في اختيار الكلمة الشعرية الموحية…- البناء المقطعي والتجزيء الدرامي… وهلم جرا من المكونات الجمالية المؤثثة لفضائه الشعري.
حقيقة أن الفقيد – أو هكذا يخيل لنا نحن معشر المتلقين – كان مقلا في كتابة الشعر، وأنه وإن اكتوى بحرفة الأدب لم يمتهن الكتابة طقسا يوميا، وإنما كان يقترف الشعر غواية، ولازلت أذكر كيف أنه قال لي يوما، جوابا عن سؤال في هذا الشأن ما معناه » أنا لا أكتب القصيدة وإنما هي التي تكتبني، إذا زارتني سيدة البهاء ومع الأسف لا تزورني إلا لماما » وأنا أعتقد أن حياة الفقيد كلها شعر بالمفهوم الأنطلوجي أو الإنساني العام للإبداع الفني بمعنى أنك بمجرد أن تتعرفه تهتدي بأنه شاعر في أسلوب كلامه، وحركاته وسكناته، وعوالمه المتخيلة المفارقة التي ينسج خيوطها بإتقان…كما أعتقد أن ثقافته الموسوعية وبخاصة في مجال المسرح والسينما وفن الموضة – وهذا جانب قلما نلتفت إليه- فضلا عن شخصيته القلقة التي لا تستقر على حال… كلها بواعث أو عوائق حالت دون أن يستقر على وثيرة واحدة أو أن يصطنع لنفسه وضعا اعتباريا بصفة شاعر.
وإذ نتحدث عن التجربة الإبداعية للفقيد لا يمكن أن نغفل شغفه بالفن المسرحي ولعله الأصل بالنسبة إليه، ومن منا لم يعجب بنص » مارلين منرو تقرأ كليلة ودمنة » التي أحرزت في الثمانينات- على ما أذكر- على جائزة أحسن نص مسرحي في إقصائيات الجهة، وكما هو جلي من صيغة عنوان المسرحية أن الفقيد يدمن خطاب المفارقة عندما جعل مارلين السينمائية تقرأ ابن المقفع خلافا لما عهدناه من كتاب المسرح العربي في نزوعهم الإيديولوجي لطرح إشكالية الأصالة والعاصرة، وللفقيد مرويات كثيرة عن مارلين في السينما والحياة كثيرا ما أتحفنا بروايتها، مما ينم عن ولعه بقراءة ما نستثنيه كقراء متأدبين من ممارستنا الثقافية.
فهنيئا لشاعرنا وأستاذنا المرحوم الطاهر دحاني بهذا التكريم وإن تأخر عن موعده ، وهنيئا لشعرائنا الشباب ممن يحسن لهم التأسي بالشاعر الراحل في التواضع وتقدير مسؤولية الكلمة، وعدم استعجال النجومية الفارغة مهما كان الثمن. رحمة الله عليك صديقنا وأستاذنا وشاعرنا الطاهر دحاني مجددا، وإن لله وإنا إليه راجعون . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
٭- نص الشهادة التي ألقاها الأستاذ عبد القادر سباغ مفتش بالتعليم الثانوي في حق أستاذه وصديقه المرحوم الشاعر الطاهر دحاني مساء يومه السبت 26 مارس 2016 بمناسبة اختتام الدورة الثالثة لجائزة الشعراء الشباب التي نظمها الصالون الأدبي التابع لمركز البحوث والدراسات الإنسانية والاجتماعية بوجدة. هذه المناسبة التي أطلق عليها دورة الراحل الشاعر الطاهر دحاني، وهي الثالثة بعد الدورة الأولى التي كانت باسم الشاعر حسن الأمراني، والثانية التي وسمت بدورة المرحوم محمد بنعمارة.





2 Comments
très bien dit monsieur sabagh je crois que nous étions dans la même classe car je me souviens très bien de la séance de la balance y la justice de monsieur TAHAR ALLAH YARAHMOU et croyez moi cher frère ,que ces gens ne meurent jamais,puisqu’il y a des personnes comme vous qui immortalisent l’idée et la pensée des autres.D’ailleurs en lisant votre article l’empreinte de si TAHAR est omniprésente entre les lignes merci
تحية تقدير.الأخ العزيز عبد القادر سباغ. شكرا على الكلمات الشجية المؤثرة في حق المرحوم الطاهر. الذي كانت له علاقات طيبة مع الآخرين. كان في صبيحة كل يوم بيده كتاب او حامل دلالات معرفية متشعبة. هو نموذج أصيل للقراءة. حشمة وتواضع دون ضجيج.
رحمه الله تعالى.