من ملامح الكتابة الأدبية عند الأستاذ عبد العزيز قريش
الكتابة الأدبية عند أستاذنا التربوي عبد العزيز قريش رئة استنشاق الحياة؛ يطبعها النقد الجسور والتجريد المعقد المتجذر في البعد الفلسفي، يستنطق بها الوجود من خلال مؤشرات الوجود الحقيقية المتأصلة في فعل الكينونة الإنسانية، بما تحمل من دلالات الوجود الفعلي في الزمن والمكان بسيرورة الفعل الفاعل في الذات والأشياء، متمثلا في وعي الإنسان لذاته بما يعي من عالم الأشياء والحقائق. فحين يمتد السؤال الفلسفي في أعماق الوعي، تطفو إشكالية الوجود عند هذا الكاتب الخامد تحت ركام اللغة ؟! لتسأل الوجود الإنساني عن حقيقة كينونته عبر سؤال الإنسان العربي عن فحوى ومضمون وجوده في الأبعاد الاجتماعية والثقافية والعلمية والاقتصادية والحضارية.. من خلال سؤال المعيش اليومي للإنسان المغربي، وما يؤصلهما من وجود أنطولوجي وابستيمولوجي، يستمد مشروعيته من مرجعية التساؤل عن الماهية، بدلالاتها المرجعية التي توطن فعل القراءة في الإنسان العربي من أول النطق بالوحي؛ لما صدح الحق بالأمر. فجاءت خاطرة الأستاذ ( سألت نفسي افتراضا ) لتجذر سؤال الوجود العربي في عمق ذات الكاتب بين دفتي القراءة والإقراء! وما بينهما قول الكاتب: " سيمفونية الغياب نتوارثها بالتناوب عن الغياب بألحان الغياب المرقنة بالمرسوم الوزاري المانع لفعل القراءة المحتضن لفعل الإقراء "[1].
وفعل الإقراء سلب للوجود الحقيقي للإنسان العربي وإحالته على كم مهمل إلا في مسرحات التصفيق والتهليل للمبجل فيهم، الرامز لامتدادهم وتوحدهم وكينونتهم، المطاع في كل الأحوال بكل أصناف الطاعة؛ بما فيها الركوع تحت أعتابه الشريفة المنيفة، بما فيها من طقوس التمسح والتقرب والزلفى بثقافة النفاق الاجتماعي وأدبيات هذا النفاق؛ الذي يستجلب التبرير لما لا يبرر، وبيع ما لا يباع وإن كان خارج التملك، وغير موضع للبيع والشراء … وبذلك يؤسس لسؤال الوعي النابع من فعل القراءة في ذات القارئ حين قال: " متى ستظل المذكرة جاثمة على القراءة، مبقية على الإقراء؟ "[2] … فتشتد المأساة هنا على الكاتب ليرحل بعيدا عن قوم: الجاهل فيهم عليم، والعليم جاهل بحكم الحصار المفروض بالمذكرات الرسمية الداعية إلى الجهل المغلف بضبط فعل الإقراء! وفساد طبع وثقافة قل ولا تفعل! إلى بلاد العجائب والغرائب، لعله يجد فسحة أمل تضيء منافذ الذات إلى الذات وتبتعد عن فعل القراءة إلى الإقراء. لكن هيهات أن يجد طلبه وبغيته في تلك البلاد أو يسكن فيها، فهي كباقي البلدان تائهة تبحث عن نفسها بحثه عن نفسه؛ لذا قال[3]: " عفوا يا صاحبي ما فقهت منك القول، غير أني فهمت أن بلادكم مبتلاة مثلي بالقول الجميل، الساكن في أبراج أحلامي، المروي فيها أن الغد قريب، وما الصبح ببعيد، وما الفجر غير ركعتين يتبعهما دعاء وامتطاء جواد للرحيل، والتزود بزاد المهاجر لبلاد العجائب والغرائب إلى بلاد الفطاحل والصوائب، من نهلوا من النبع المروي بشهد القول والعمل، بجميل فناء الذات لأجل الذوات، في ربوع أوطان ضاقت بهم إلا السماء، فساحوا فيها أحياء لا أموات .. من تسموا بالعبيد لا بالأرباب، ومسحوا من على أديم الأرض كل معبود من زبد وشمع وسراب، من تنادوا في القوم ما أنتم بأحرار إن صرتم أنعاما في ربوع الأوطان!؟ آكلون شاربون نائمون سائحون جائعون! ما أنتم إلا حاطبي وهم وفراغ ". وفي قوله هذا رمز إلى جهتين متلازمتين، جهة الوجود الحقيقي الذي لا يعني الخبز وحده ومستتبعاته الاستهلاكية وجهة الوجود الحقيقي الذي يعني عنده المرجعية الدينية المستتبعة بالفجر والصبح والصلاة والدعاء ثم الرحيل إلى حيث تتساوق الجهتان معا، لأجل إنسانية وكرامة الإنسان العربي. ففيهما يجد الكاتب العمل الصالح الباني للعباد والبلاد؛ ذلك أن " العمل الصالح في حقيقة مضمونه هو جوهر الإيمان المضيء بلا انطفاء للمتحرك وبلا ركود أو بطء والتواصي بالحق النور الذي يحقق التضامن والتآلف والالتفاف في سبيل الخير ودفع الشر بكل الأسباب والوسائل والنهوض بالواجبات الكبيرة في مجالات الحياة وآفاقها وبهذه السمة تتكون أمة الخير القائمة على الحق والعدل والأمن والسمو الإنساني"[4]. وهي مطلبه في قوله من خاطرته هذه: " هيا إلى النبع الأصيل حيث الذات ذاتا "[5] ولن تكون الذات كذلك إلا بـ " مقام المسؤولية وشرف التكليف، فالإنسانية في الاستثناء الشامل المعادل للاستغراق الكامل هي المسؤولية والتكليف ليكون ثمة عقل له وزنه وتقديره وضمير حساس له سره وتأثيره "[6].
وهذا الضمير هو ما وجده الكاتب " رفات جسد مسجى بين مطرقة وسندان"[7]. حيث يظل عند الأستاذ عبد العزيز قريش السؤال الأنطولوجي بمفهوم " هايدجر " المرتبط بتعقل الوجود بوجهيه النظري والعملي حاضرا في كتاباته الأدبية المتميزة بالبعد النقدي، الذي يحضر بكثرة فيها، وفي كتاباته التربوية هي الأخرى. لكن ما يعقد هذه الكتابات سراديبها الفلسفية والرمزية العميقة والمغلقة في بعض الأحيان. التي تستدعي من المتلقي معرفة وثقافة فلسفية ورمزية وأدبية عميقة. وإلا سيشتكي الكثير من القراء كتابات هذا الأستاذ. ولعل إطلالة أخرى على خاطرته التي نشرها مؤخرا في جريدة " المساء " بعنوان : " رؤية من رحم الوطن "[8] تعرب عن البعد الرمزي والنقدي والفلسفي في كتاباته. وليجدها المتلقي جزءا من سؤال الماهية والفعل والوجود، انطلاقا من سؤال الواقع المعيش، الذي يحيل الجغرافية إلى مهاجر أو مواطن مكبوت ببطاقة الهوية إلى عالم المقهورين بسياسة الاستهلاك لا الإنتاج، وبسياسة الجهل لا العلم، وبسياسة التهجير لا التوطين!
فالنقد ملمح أساس في كتابة الأستاذ عبد العزيز قريش، فهو الكاتب غير المتفرغ للأدب؛ لكنه يبدو في العمق كاتبا متمرسا حين ينطلق من الواقع ليسائله في بعده التخيلي بما يرسم من لوحات تعبيرية تنم عن أحداث وشخوص وعلاقات وأزمنة وأمكنة تطرح أسئلة الاستشراف للممكن من خلال الكائن؛ لتحديد معالم وصوى الطريق التي ينبغي سلوكه للخلاص من أزمة الحاضر الممتهن،بغية أن يجد المتلقي الكتابة الأدبية " واقعية لا بمعنى التسليم للواقع بل بالمعالجة الواقعية ومحاولة إعطاء شحنة مقوية لإعادة الإنسان إلى وعيه المتوازن كلما اكتسب أكبر قدر من المقبولية أياً كان نوع هذا النتاج الكتابي "[9] ومن تم فالكتابة تبقى عند هذا الكاتب عمق مرجعي لوجوده الذاتي بل وجود ذاتي، وامتداد لوجود المتلقي من خلال طرح مجموعة من الأسئلة النقدية على واقع المتلقي، بما يدفعه إلى البحث عن الأجوبة لا ليستقر وضعه وحاله وإنما ليثير الأسئلة من جديد؛ حيث البعد النقدي بعد وجودي من خلال طرح الأسئلة لا تلقي الأجوبة. يقوم على " نشوء البواعث الموضوعية والذاتية للإبداع وولادة الأفكار والصور وتبلورها، إلى مرحلتها الأخيرة التي يتجسد فيها الإبداع نصا أدبيا ناجزا "[10] ليطرح الواقع الأنطولوجي للإنسان العربي وفي جزئه المغربي على المساءلة الإيبستيمية من قبل الذات والآخر ضمن حدود الفعل الإبداعي. حيث يذهبان إلى الحقيقة المنتصبة في النص، فيجدان فراغا مسائلا كليهما عن هذه الحقيقة الغائبة والمتفلة من الحضور ذاتا شيئية متمفصلة في مكونات ومتجمعة في صورنتها، التي تحدها ببعدين متلازمين هما: البعد البيولوجي والبعد اللغوي، وهذه الحقيقة الحاضرة في بعدها الموضوعي المتجلى في معاني النص، كما في قوله: " فلا تسألوني عن اسمي، ولا تذكروني عند من سألكم عني، فأنا من أسكت وسكت في الجواب، حين لاح من وطني طيف بكى واشتكى من غمام عم السديم، فاسود الأفق وراح يبحث عن قبس من نور هجر الأيام، وتصفدت معاصمه بالرؤى ومعاول الكلام "[11]. فهنا تغيب الحقيقة كذات مشيدة ومحددة المعالم والبنيات بينما نجدها حاضرة كموضوع مشيد عن واقع معيش بلغة رمزية مشحونة بالنفي للذات نتيجة ظلام عم المكان والزمان. فهي لحظة تساؤل عميق يقع ما وراء المباني وتحت المعاني. لماذا نفي الاسم والسكوت والطيف والغمام والسواد والهجر والصفد والمعاول؟ لماذا معاول القول أشد من معاول الحديد؟ لماذا هذا الواقع المظلم؟ … من هنا النص لدى هذا الكاتب نص أسئلة لا أجوبة، تكتسب المعرفة منه " من خلال مكاشفة الذات والدخول بها في موغل الأسئلة سواء كانت حضارية أو ثقافية أو فلسفية "[12] ومن ثمة تكون معاني المباني في الأسئلة هي ما يراه المتلقي/ القارئ لا يبنيه الكاتب، الشيء الذي يقول فيه بيير نيكول Pierre Nicole : " لا ينبغي النظر إلى الأشياء كما هي في ذاتها، ولا كما يعرفها من يتكلم أو يكتب، بل يجب النظر إليها بالقياس إلى ما يعرفه عنها أولئك الذين يقرأون أو يستمعون فقط "[13]؛ فيمتلك الحقيقة الغائبة الحاضرة كما يراها من داخل النص أو من خارجه ضمن إطار الواقع المعيش في المعطى اللغوي، وفي المعطى التأشيري من حيث النص مؤشر " لسلوكيات وعادات وتقاليد وأساليب تفكير"[14]
فالكتابة لدى أستاذنا عبد العزيز قريش، لا تقع ضمن خطية كمية واحدة بقدر ما تقع ضمن خطية صنفية ومنهجية واحدة تتسم بالتجريد وبالرمز وبالعمق الدلالي الخفي وبتنوع لوحاته الفنية واللغوية، بل؛ وفي بعض لحظاتها بالغموض الذي يستدعي تدخلا منهجيا ومعرفيا وتقنيا لملامسة مداخلها البنائية والدلالية بما يتجاوز " المعنى الظاهري أو السطحي للنص، إلى بناه العميقة توسلا بما فيه من شفرات وإشارات ومفاتيح هي هذا الدليل الذي لولاه [ عند كاتبنا ] ما تجاوزنا المعنى الظاهري للنص إلى معناه العميق "[15]. الكتابة التي كثيرا ما تتطلب أكثر من لحظة قرائية، وتتطلب هدوء وصفاء ذهنيين لمقاربة أبعادها الوجودية كخطاب وجودي وفلسفي ينطلق من الواقع ليفارقه إلى الأسئلة الكبرى في صيغ ميتافيزيقية دالة عن إمكانية الإجابة بمنطق الحقائق المستنبطة من المعيش اليومي للإنسان العربي المختزل في الإنسان المغربي! خطاب يتحدث بلغة لا تنضبط في قواعدها ونظمها لمدرسة معينة من المدارس الأدبية المعروفة، وإنما أجدها تأخذ من الكل لتفارق الكل في إطار تفردات ذاتية قائمة في قوالب متميزة بمنظور التناص، متساوقة مع قانون الاختلاف الحتمي بين الأجناس الأدبية، الذي يظل " جوهريا من دونه تخفق تلك الأجناس في أداء رسالتها الإنسانية التي تشترك فيها جميعا بتوافر الأداة اللغوية الخاصة بكل منها "[16] بما تشكل في وحدتها مدرسة مستقلة في ذاتها بنهجها التجريدي لتيمات لوحاتها الإبداعية؛ الشيء الذي سمح لي باستدعاء الاصطلاح التشكيلي لمقاربة بعض نصوص هذه التجربة في الكتابة الأدبية، خاصة الاصطلاح التشكيلي التجريدي الذي يمكن امتياح أبجدياته لإنجاز أبجديات " التشكيل اللغوي التجريدي " منها، لأجل مقاربة بعض الأعمال اللغوية التجريدية الرائدة، كما في تجربة هذا الأستاذ الباحث. وربما نتج التجريد والغموض والماورائية لديه عن كون الكتابة الأدبية عنده حاشية على المتن العلمي التربوي، الذي يشتغل على قضاياه كمفكر تربوي وباحث في علوم التربية؛ له من الدراسات العديدة العميقة والمتخصصة ما تشي بحضور البعد النقدي في فكره التربوي في منحاه الأكاديمي، وربما نتج من طبيعة القراءة لديه، وهي قراءة واعية للكائن مستشرفة لما يمكن أن يستخرج منه من الممكنات من خلال تفعيل منظومة السؤال، الذي يظل في نظره كما باقي المفكرين مفتاح الإبداع والعلم والتجديد وتوليد الغائب من الحاضر! واستحضار الواقع من أجل مساءلته وتغييره وتطويره. فهو يستدعي الواقع في أغلب نصوصه منتقدا إياه قبل أن يقول قوله النهائي من خلال نفي الفعل، حيث قال في مرويته[17]: " فإليك أيها الانتخاب الإيديولوجي المؤدلج النتن أقول بسذاجة الأمي الغائب الحاضر اللاوعي الواعي: يجب أن تنسحب بهدوء من ثقافتي، ومن كراستي، ومن بطاقتي الانتخابية. وتعلن بروح رياضية عن إفلاس طروحاتك القولية وشطحاتك الفعلية، وبوار سياساتك الميدانية … "، وهي واقع معيش بلغة اللاوعي الواعي المتناقض في ذات الوعي، غير المتناقض في ذات اللاوعي. من هنا؛ هذه الصراحة وهذا الغموض الجامع للاوعي والوعي في نفس اللحظة الوجودية واللحظة الواقعية يساءل الواقع السياسي المرتفع عن ذاته إلى ذاته الموضوع عن أسباب هذا الترهل الحاصل فيه، من خلال الأسئلة المضمرة في الحكي بلغة مباشرة وصريحة؛ التي هي وعي ذاتي وجمعي لمقاربة الواقع، مفارق لـ " ظواهر كثيرة سادت التعبير الروائي منذ مطلع السبعينات لدى أبرز كتاب الرواية العربية مثل مصالحة الواقع أو تجميله أو الفخر الوطني أو القومي ومشتقاتهما أو التبشير المهادن الذي ولع به روائيون موهومون بنعم سلطات حملت وعود التغيير ثم لم تف بها "[18]. من هذا المنطلق الإيبستيمي، الذي نجد فيه بعدا فلسفيا يفجر طاقات وإمكانات العالم المعيش، لتحفيز مجالات الاشتغال بمفرداته البراغماتية الفردانية الضيقة، المنحصرة في المصالح الفردية لأشخاصه الذاتيين والمعنويين نحو الارتقاء بها إلى مجالات الاشتغال العامة بما يفيد الوظيفة الإنسانية للكاتب والمثقف والباحث، في زمن البحث عن الهوية والرقي المعرفي والحضاري للإنسان العربي المختزل في بعض نصوص كاتبنا في الإنسان المغربي.
ليس قوله في صلاة الغائب[19]: " أن الإشكالية الميتافيزيقية تتحدد في البعد الأنطولوجي للاوجود الإنساني في الحرف العربي، المنهك منذ غادره العرب إلى مساحات حرفية أخرى، وإلى لوحات زيتية من معارض مختلفة؛ تتمدد على الأطراف الواعية بطرافة وجودها من حيث كان الواجب في حقها لا وجود إلا في هلامية مادة الوجود، حتى تتشكل من إمكانية الوجود، وترتفع إلى الوجود، حينها ما انفك يردد في وجهي: الوجود واللاوجود، الفساد والصلاح، الإفساد والإصلاح، واجب الوجود وممكن الوجود، الأنا والآخر، الذكر والأنثى، التخلف والتقدم، الناخب والمنتخب، الواهب والموهوب له.. مصطلحات إيديولوجية، ما بين مضمونها وسياقها هرطقة وديماغوجية، يستقيها اليسار واليمين من قاموس غياب الذات للإمساك بالذات، والإبقاء عليها في حالة خمول وسكون تتردى بين الوجع والرجاء، بين اليوم والغد، بين الحاضر والمستقبل، بين اليأس والأمل، والدائرة لها محيط ينبطح على الطريق، تلوكه الدائرة فراغا من الانتظار والاحتضار، آملة مني أن أمنحها عهدا على قراءة جمهورية أفلاطون، وعتق عبيدها من أسر الفكر الإغريقي الميتافيزيقي … ولا معنى لوجودنا إلا إذا اعترفنا بأننا يسار ويمين يدور في دائرة الاتجاهات الأربع البائسة بوجودنا، الحزينة بأسمائنا، المتألمة بحضورنا، المسومة بالغياب، وبحضور الغياب " إلا نتاج فلسفي لمهمة الكاتب نحو أمته كمفردة في البناء الإنساني الكوني، إذ يوظف التساؤل الفلسفي في مقاربة وجودية الإنسان طبق انتمائه الإيديولوجي والسياسي والاجتماعي والثقافي في ثنائية الخاسر فيها الحرف العربي كناية عن الإنسان العربي مختزلا في الإنسان المغربي الممسوك به خاملا وساكنا بين الوجع والرجاء، بمعنى استشراف الإنقاذ من خارج هذه الثنائية بتفعيل الذات من أجل الذات لتغيير هذا السكون الممتد في كلية الذات العربية!. من هنا يفجر الكاتب النص نحول التحول من اللافعل إلى الفعل الحامل لقوة التغيير بحكم الضغط الواقع من الغياب عن الفعل على الفعل. ليولد تفاعلا داخليا بين المتلقي وواقعه المرتفع عن واقعه المعيش إلى واقعه في النص المكتوب المقروء، الذي يعري عنه كل مستوراته، دافعا إياه إلى مقابلة الأنا في جلسة حميمية للمكاشفة والمصارحة البعيدة عن المجاملات أو التستر عن الحاضر الراقد وراء الذات المنمق بمؤثثات الذات الواهمة والحالمة في نفس الوقت. ذات فردية جماعية يغطيها اليومي ليشكل منها حقلا اجتماعيا له سماته وبصماته وحركاته وسكناته، له انتصاراته وإخفاقاته؛ فهو نمط من الوجود له معيشه اليومي؛ من حيث " لكل نمط من أنماط الوجود ولكل شكل من أشكال الوجود في العالم حياته اليومية. لذا مثلما يحيا كل فرد يومياته فإن كل جماعة أو مجتمع يعيش حياته اليومية من حيث هي حياة متمايزة ومشتركة في ذات الوقت. تتمايز الحياة اليومية للأفراد بحكم نوع الصلات التي يربطونها مع محيطهم المشترك، لكنهم يعيشون بشكل جماعي هذه الصلة مع العالم المحيط بهم. إنها مشتركهم وسمة انفتاحهم على بعضهم البعض، وكذا على موضوعات هذا المحيط وأشيائه. داخل هذا المشترك اليومي يدرك كل فرد ذاته وينفتح عليها بوصفها ذاتا تعيش وتتصرف كل يوم بشكل طبيعي: إنها توجد وسط عالم محيط بها. أشياؤه رهن إشارتها، لذلك فإنها تتصرف وتسلك بشكل مباشر إزاء هذه الأشياء. يقول أ. فينك E.Fink: ينفتح الإنسان على نفسه بفضل ما يفعل، مثلما يتخذ هذا الانفتاح شكل فهم لأفعاله … يفهم الإنسان ذاته انطلاقا من الأعمال التي ينجزها في عالمه المحيط. لهذا أنا بدء من يقوم بهذا الفعل أو ذاك، ومن يهتم بشيء ما لمصلحة، أو ذاك الخائف، أو المبتهج أو صاحب ذهن مشوش. تتشكل ملامح هذا الفهم الذاتي في اليومي بشكل متطابق مع نوع انفتاح الإنسان على ذاته داخل عالمه المحيط. بل إنه ليس شيئا آخر غير هذا الانفتاح اليومي الذي يعلن ألفة مع الذات سابقة لكل تأمل وتفكر "[20]؛ ومن ثمة فالغوص في اليومي المعيش الواقعي في خواطر الأستاذ عبد العزيز قريش يغمس القارئ في تفاصيل واقعه بما يشكل روافد لنهر التساؤل الدائم عن الأنا والآخر، تحت سقف الوعي المنبثق من الفعل الفاعل في اليومي. فهو يمارس الحفر باللغة في عمق الوجود الإنساني كي يبحث عنه في ثنايا واقعه المعيش، وبمجسات حساسة لمأساة الإنسان العربي الحاضر الغائب عن الوجود. هنا تكون الكتابة شيء ملازم بل شيء متماه وذات الكاتب كامتداد للآخر الساكن وراء الكتابة!
تشكل كتابات أستاذنا غربة الذات في الذات بما تعيشه من مأساة وآهات ومتاهات معيشية يومية؛ بطلها الإنسان المقهور بتفاصيل حياته اليومية من شغل ومتطلبات البقاء حيا في جسده البيولوجي مهما كان ميتا في ذاته وهويته ووجوده. فهو أهل للكتابة عنه بكل أبعاد الكتابة التجريدية التي تشيد لوحة تقول كل شيء إن قرأت خلف ألوانها ورموزها وأشكالها ومؤشراتها. فهي كتابات من الإنسان إلى الإنسان لأجل الإنسان، والإنسان العربي خاصة والمغربي بالأخص. فمهما حاول القارئ تصيد الملامح الكبرى لكتابات الأستاذ عبد العزيز قريش فلن يظفر إلا بالظلال على أمواج اللغة الأدبية، ليشكل منها رؤيته الخاصة لما يقرأ. علما بأنه يكتب الشعر كذلك، ذاك الذي فيه قول آخر.
قبس من منظور: رشيدة أوعقة
عبد العزيز قريش، على ضفاف الجهل حكيت، خواطر تحت الطبع ( أحتفظ بنسخة على الحاسوب أهداها لي الكاتب مشكورا تحمل توقيعه). ويوجد الهامش في الصفحة 7.
[2] انظر خاطرة" سألت نفسي افتراضا " منشورة في وجدة سيتي ودنيا الوطن الإلكترونيتين. ص: 4.
[3] لقد نشر هذه الخاطرة على صفحات جريدة وجدة سيتي الإلكترونية، كما نشر كتابه السابق في جريدة دنيا الوطن الإلكترونية. فلينظر النص كاملا فيهما.
[4] الشيخ ضياء الدين رجب، الإنسانية بين الاستغراق والاستثناء في القرآن الكريم، ندوة المحاضرات، موسم حج 1389هـ، رابطة العالم الإسلامي، مكة، السعودية، ص.ص.: 189 ـ 199.
[5] انظر خاطرته: " بلاد العجائب والغرائب " ص.22.
[6] الشيخ ضياء الدين رجب، مرجع سابق.
[7] نفس الخاطرة السابقة.
[8] جريدة المساء، عدد 21، 11 أكتوبر 2006، ص.: 114.
[9] عبد الله موسى، الكتابة لغة الإفهام لا الإبهام،http://www.annabaa.org/nba41/ketabah.htm.
[10] د. فؤاد المرعي، في العلاقة بين المبدع والنص والمتلقي، عالم الفكر،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 23، العددان 1 و 2، 1994، ص.ص.: 335 ـ 360.
[11] نص الكاتب الموسوم ب : " رؤيا النزيل على ضفاف الوهم " ص.: 117.
[12] ذ. فاتح بن عامر، النقد التشكيلي العربي، عالم الفكر،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 29، العدد 2، 2000، ص.ص.: 265 ـ 276.
[13] رولان بارط وآخرون، الأدب والواقع، ترجمة: عبد الجليل الأزدي ومحمد معتصم، ج.ج. تنسيفت، المغرب، 1992، ط1، ص.: 43.
[14] د. محمد فايز الطراونة، الأنا والآخر وهدم النمطية، عالم الفكر،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 27، العدد 3، 1999، ص.ص.: 277 ـ 307.
[15] د. عبد الرحمن محمد القعود، الإبهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2002، العدد 279، ص.ص.: 299 ـ 300.
[16] د. محمد مشبال، البلاغة ومقولة الجنس الأدبي، عالم الفكر،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 30، العدد 1، 2001، ص.ص.: 51 ـ 96.
[17] مرويته الموسومة ب " رسالة إلى اللاوعي بعنوان: الانتخاب المحتفل به بإيديولوجيات اللاوعي " ، ص.: 103
[18] د. عبد الله أبو هيف، أزمة الذات في الرواية العربية، عالم الفكر،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 24، العدد 4، 1996، ص.ص.: 225 ـ 272.
[19] نشر هذا النص في جريدة " الحركة ".
[20] ذ. نور الدين الزاهي، الفلسفة واليومي، مطبعة فضالة، المغرب، 1999، ط1، ص.: 5.
1 Comment
شكرا لأم الزهراء رشيدة أوعقا على التقديم الجيد.