احتفال الشعراء بأحزانهم في اليوم العالمي للشعر
اختارت المنظمة العالمية للتربية والثقافة يوم 21مارس ليكون يوما عالميا للاحتفاء بالشعر والشعراء حيث تقرع الطبول وتـُدق الأجراس في ربوع الوطن للتذكير بالكلمة الجميلة والمشاعر الفياضة والأحاسيس الرقيقة التي يمتازبها الشاعر المخلوق الذي ينثر كلاما أخاذا يسحر العقول ويأخذ بالألباب في زمن انعدمت فيه الأحاسيس وأصبح الكائن الحي مادة تباع وتشترى يمتلك قلبا قاسيا تدخلت عوامل شتى في صنعه وتوجيهه.
في هذا اليوم يتذكر العالم كائنات بشرية تتحدث لغة أخرى تخالف ما تواضع الناس عليه ، لغة يوصف صاحبها بالجنون ينثر درره المصوغة في مناجمه البعيدة الأغوار
في فصل الربيع حيث تتفتح الأزهار، وتتسربل الطبيعة حللا يانعة تجعل الطيور تلقي أشعارهافي الفضاء الفسيح، يصل مداها إلى كل عاشق مكلوم حينئذ يتذكرا الناس الشاعر ويكرمونه حاضرا أو غائبا.
سيبقى صاحب الوجدان الرقيق ينثر قصائده في الأكوان مادام يرى الجمال فيها ومادامت قيم الخير تلوح في الأفق نوراوهاجا يبدد الظلام الحالك، ومادام القهر والاستعباد، والألم والأمل والقهر والظلم والرجاء….
لن يموت الشاعر مادامت الموسيقى تعزف على الأوتار، سيظل طول السنة مسافرا بين دروب لغته يستمد منها طاقته ويصوغ قصائد يقذف بها في وجه جبروت الدهر وغلبة الرجال تتقاطر جروحا وألما وتحكي عن مآساة الشعوب التواقة إلى لحرية والانعتاق في زمن العولمة الكاسح.
فالشاعر ابن بيئته يعيش كالآخرين، لكن جرحه أعمق ونزيفه أنهار ووديان ، يرحل عن هذا العالم وعذاباته ركام من نار يحتفي الآخرون بكلمته لكنه منبوذ بينهم يصارع الحياة فتصرعه يقول الدكتور عبد العزيز المقالح في مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل: ( منذ أسابيع عندما كنت مع أمل دنقل في المستشفى ،مددت يدي إلى جيبي ,أخرجت خمسمائة جنيه وقدمتها إليه ضحك أمل من تصرفي غير المهذب وقال لي في خجل:
اطو أوراقك يا أخي فلم أعد بحاجة إليها، كنت منذ سنوات كما تذكر
بحاجة إلى ورقة واحدة منها وكانت ورقة واحدة تكفي لتسعدني يوماأو أكثرأما الآن فلا قيمة لها عندي، إن ما في العالم من هذه الأوراق لايهز شعرة في جفني، ولا يخفف ألم دقيقة واحدة من عذابي الطويل المرير).ص9 ط2
بأية حال نحتفي بالشعر في هذه السنة وقد رحل عنا الرواد وغيرهم فهذه نازك تموت غريبة عن بلدها العراق تقول في
( وادي العبيد)
أي مأساة حياتي وصباي ***
أي نار خلف صمتي وشكاتي
كتمَتْ روحي وباحت مقلتايَ***
ليتها ضنت بأسرار حياتي
ولمن أشكو عذابي وأساي***
ولمن أرسل هذي الأغنيات
وحواليّ عبيد وضحايا ***
ووجود مغرق في الظلمات
**************
قلبي الحر الذي لم يفهموه***
سوف يلقي في أغانيه العزاء
لايظنوا أنهم قد سحقوه ***
فهو ما زال جمالا ونقاء
سوف تمضي في التساميح سنوه
وهمُ في الشر فجرا ومساء
في حضيض من أذاهم ألِفوه
مظلم لاحسن فيه لاضياء
ومن منا ينسى محمد مهدي الجواهري نهر العراق الثالث الذي وافته المنية في أحد مستشفيات سورية عن عمر يناهر 100عام، ونزار قباني الذي وافته المنية في لندن يوم /98/30/04ومن قصائده قصيدة بعنوان متى يعلنون وفاة العرب؟
…أن أُمسِكَ المستحيلْ… أحاول بالشعْرِ
وأزرعَ نخلا…
ولكنهم في بلادي، يقُصّون شَعْر النخيلْ…
أحاول أن أجعلَ الخيلَ أعلى صهيلا
ولكنّ أهلَ المدينة يحتقرون الصهيلْ!! …
*****
و هذابدر شاكر السياب الذي انتقل إلى جوار ربه بالمستشفى الأميري بالكويت يقول : في آخر قصائده
وبقيت أدورُ ، حول الطاحونة من ألمي ..
ثورا معصوبا ،كالصّخرة ، هيهات تثور..
والناسُ تسير إلى القِممِ
لكني أعجز عن سير ويلاه ُعلى قدمي
وسريري سجني تابوتي ، منفاي إلى الألمِ
وإلى العدمِ
يقول محمد النبهان عن الشاعر الراحل سركون بولص(
: مات غريبا كما عاش ..في مدينة غريبة برلين) (لم يكن يريد أن تكون نهايته فيها فقد كان يتمنى الموت في مدينة أخرى غريبة أيضا( سان فرانسيسكو)
حملت غربته الأولى وتلقفته تماما كولادة أولى يصبح فيها المنفى وطنا والمرارة أشد في فراقه أو الموت بعيدا عنه.).
قال رحمه الله قبل رحيله الأخير:
نحن الشعراء ، يتامى أحلامنا
عابرون في صمت حالم وقور…
عابرون أسماءً
عبارات وصوراً…
عابرون، كما بقية الخلق إذ يعبرون…
عابرون وفينا الصامت، اللاهث والجاهــر…
ومنا من يتورم دمعه لدنس جغرافيا الفتك والسفك،
ويئن منه الطرف أو الورك.
وهناك في مدينة وجدة المغربية يرقد شاعر آخر بمقبرة سيدي يحي شاعر لم يكرّم في حياته وبعد مماته وهو القائل ( المؤسسات الحكومية تدّعي ما لا تفعل، وتقول ما لا تنجز، والدليل أن حالتي معروفة عندهم غير أنهم لم يجشموا أنفسهم ما يستحقه الأمر من حزم، وبالمناسبة لا يفوتني أن أشيد وأشكر الشاعر المغربي الكبير والإنسان العظيم في أخلاقه، محمد بنيس الذي بذل جهودا جبارة لا أنساها على الإطلاق.)
إنه المرحوم محمد بنعمارة والذي بالرغم من التجاهل الذي مني به من قبل المؤسسة الرسمية لا زال حيا يرزق بين محبيه وعاشقي الكلمة الصوفية في حدائقه التي لازال شذاها يزداد عبقا كلما حركهامحب أو صائد قريض أو متنسك تائه في خلوةالأشعار والأذكار.
قال عنه الشاعر رشيد سوسان:
للحياة يغنّي، ويشْدو،
ويهْوَى قِرى الحرْفِ،
يهوى أريج القصيدْ…
شاعر فيْضهُ جامعٌ:
بين قرْبِ الكلامِ،
وبُعْد المرامْ…
وجناحُ قصائدهِ نافِذَهْ:
تُسْمِع النّاظرَ،
” نِزارْ”… بعْضَ سحرِ
أو تُذيقُ النّفوسَ،
حلاوة شعر الحبيبْ
يقول أبو العلاء مخاطبا أحد الشعراء في الرسالة متحدثا عن الشعر:
(بئس الصناعة إنها تهب غـفة من العيش لا يتسع لها العيال وكم أهلكت مثلك فهنيئالك إذ نجوت)
إن الشعراء والمثقفين غرباء في أوطانهم في زمن العولمة حيث القيم المستوردة تغزو الآفاق تدفع في اتجاه محو دور الأدب والأخلاق وتشجيع البعض على تكسيرالأقلام المتحدثة بلغة المثل العلياو سجع الحمام في زمن الصقور و القيم الوافدة.
ورغم كل ذلك لازال الشعراء يبدعون، ولازال بعض النقاد يتابع باهتمام ما يصدر عنهم ولكنهم متفقون جميعا على كساد الشعر والأسباب التي يعددونها بعضها راجع إلى الشاعر والبعض الآخر إلى المتلقي حيث أصبحت بعض الدواوين الشعرية تضم بين دفتيها كلاما لايمت إلى الشعر بصلة الشيء الذي جعل القراء والنقاد معا يعترضون على هذا الصنيع ويلومون أصحابه على الإسفاف والتسرع في النشر ونحن نتفق مع هؤلاء لكن نختلف معهم حين يتعرضون لأعراض الناس مبدعين وقراء والتهجم عليهم بدل دراسة المنتوج وتبيان عيوبه ومحاسنه والارتقاء بالذوق الأدبي إلى أعلى الدرجات، كانت الصحف المصرية تزداد مبيعاتها حينما تنشر قصائد لبعض الشعراء كابراهيم ناجي والعقاد وحافظ ابراهيم وأحمد شوقي والمازني وغيرهم أما الإعلام اليوم فيساهم بدوره بقسط وافر في الركود الذي طال الكلمة الحالمة لنشره كلاما يقول عنه إنه شعر وما هو بشعر. إن النقاد والمؤسسات الثقافية مطالبة بالقيام بالدور المنوط بها وتكريم الشعر والشعراء والرفع من أذواق الناشئة بتدريس الشعر في المدارس لنشر قيم الجمال وتفعيل منظومة القيم بالمنظومة التربوية، وبالحياة بصفة عامة.
1 Comment
اليوم العالمي للشعر فكرة فلسطينية – مغربية بادر اليها من فلسطين ( فدوى طوقان ومحمود درويش وعزالدين المناصرة ) في باريس عام 1997 – وتابعها من المغرب ( عبد اللطيف اللعبي ومحمد بنيس ).