Home»International»نموذج المعرفة والقيم : المعيرة بعد إجرائي في منهج الغزالي التربوي: قراءة في متن كتاب إحياء علوم الدين وكتاب المنقذ من الضلال

نموذج المعرفة والقيم : المعيرة بعد إجرائي في منهج الغزالي التربوي: قراءة في متن كتاب إحياء علوم الدين وكتاب المنقذ من الضلال

1
Shares
PinterestGoogle+
 

*-سياق فكري عام:

يشكل الإمام أبو حامد الغزالي قامة هرمية ،وعلامة فارقة ،في حقل الفكر الإسلامي ،متح من مصادر ثقافية متعددة ،ونهل من أطر مرجعية ،متنوعة كما يعتبر نقطة تقاطع مضيئة ،لقطبي الفقه الأصولي، و التصوف السني،والتفلسف الإسلامي، في منظومة الحضارة الإسلامية ،بكل ما يعنيه الأول من حذق بالشريعة، والثاني من عقلانية ومنطق  ،والثالث من تربية ومجاهدات.

رأى حجة الإسلام نور الحياة  ،في مدينة طوس بإقليم خراسان، حسب ياقوت الحموي سنة 450 هجرية ،وتوفي عام 505 هجرية، وراكم خلال نصف قرن، تجارب علمية متعددة ،أهمها التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد سنة 484 هجرية ،ثم بالمدرسة النظامية بنيسابورسنة 499 هجرية ،فقد كان يحضر حلقاته  حسب تلميذه أبي بكر بن العربي أزيد من 400 عمامة ،أي عالما حجة .استطاع بفضل علمه الغزير، وخبرته الواسعة في التدريس، أن يصوغ نظرية في التربية، أثنى عليها عباس محمود العقاد ،و يوسف القرضاوي، والمستشرق رينان : »لم تنتج الفلسفة العربية فكرا مبتكرا ،كالغزالي ».

وقد تجسدت هذه النظرية ،التي تقارن بأكبر النظريات في عصرنا الحديث، في كتابه القيم إحياء علوم الدين ،الذي يوجد في كل مكتبات العالم ،والذي قال في حقه المحدث الشافعي عبد الرحيم العراقي : » من لم يقرأ الإحياء، فليس من الأحياء » . حيث قسمه شرف الأئمة إلى :

– مقدمة حول العلم وفضله.

وأربعة أجزاء :

1-ربع العبادات كالصلاة…

2-ربع العادات كالزواج…

3-ربع المهلكات كالغرور…

4-ربع المنجيات كالتوبة…

ويقع كتاب العلم، في الربع الأول الخاص بالعبادات، ويتطرق إلى قضايا أساسية، تتعلق بالعلم وماهيته ،ومسوغاته ،وأشكاله، وأطره المرجعية ، ومعاييره ،ومنهج تلقيه والعالم ومواصفاته ورسالته والمعلم وشروطه ووظائفه والمتعلم وصفاته ومهامه…انطلاقا ،من تفسير الحديث النبوي الشريف : »طلب العلم فريضة ،على كل مسلم » صححه الألباني، وحسنه السيوطي، ومن خلال قراءة مضامين مجموعة من النصوص القرآنية، والحديثية ،التي تعرض للعلم وفضله. ومقاربة شروحات هذه المتون ،تقودنا إلى وسم المنهج التعليمي للغزالي، بالمنهج المعياري ،بناء ورود مصطلح المعيارية، في الجهاز المقولي لحجة الإسلام : »وإذا كانت السعادة في الدنيا، والآخرة ،لا تنال إلا بالعلم والعمل ، وكان يشتبه الحقيقي بما لا حقيقة له ، وافتقر بسببه إلى معيار،فكذلك يشبه العمل الصالح النافع في الآخرة بغيره ، فيفتقر إلى ميزان تدرك به حقيقته ، فلنصنف كتابا في ميزان العمل ،كما صنفناه في معيار العلم ،ولنفرد ذلك الكتاب بنفسه، له من لارغبة في هذا الكتاب » . كتاب المؤلفات للغزالي ص79.

 ولعل السر في ربط الغزالي العلم بالعمل، هو درجة الاستجابة للمعيارية .فالعلم يكون نافعا إذا تحققت فيه قابلية التطبيق، والعمل يكون فعالا، إذا ارتكز على أسس علمية.  من هنا فللعلم ثلاثة مصادر يطلب منها :أولا التعلم، وثانيا التفكير، وثالثا التقرب من الله .هذا ولهذه المعيارية عدة تجليات يمكن رصدها في :

1-التجلي المعرفي: وفيه يعمد الغزالي إلى معيرة المعرفة المدرسة ،وتصنيف العلوم  المتلقاة ،في أبعادها الثلاثة :الاعتقاد ، الفعل، والترك، عدة تصنيفات تخضع لمعيار  الوظيفة، أوالقيمة، أو المنفعة:

*-علم ظاهري : وسيلته الجوارح ،ومبحثه العلاقة بين العبد والله ،أو بين العبد والعبد.

-علم باطني: ويتم بالقلب » اللطيفة الربانية الروحية » ص56 إحياء، ومبحثه تحلية القلب  بذكر الله، و بالفضائل، وتخلية القلب، عن كل ما  يشغل، ومن الرذائل .للتوسع الرجوع إلى ص55 من إحياء.

*-علم اليقيني :يعطي الغزالي الأولوية للعلوم الدينية ،لأنها منبثقة عن الهدي الإلهي ،فهي يقينية  يقول الغزالي: »فلا يجتمع في شيء واحد ،النفي والإثبات،  والحادث والقديم، والموجود والمعدوم، والواجب والمحال ».المنقذ ص6 .

*-علم غير يقيني : لاينزع الغزالي الثقة من العقليات ،وإنما يدعو إلى تعزيز العقل بالتجربة، والمشاهدة. لكنه يجرد الحسيات من الإدراك اليقيني، فالعقل يضل، والحواس تفتن.

*-علوم الآخرة :ويميز فيها بين « علم المكاشفة ،الذي يقود إلى عشق المعلوم، وعلم المعاملة ، الذي يفضي إلى كشف العمل »ص5 إحياء علوم الدين ويمثل لها بعلم الفقه ،والكلام ،والقرآن ،والحديث. ومنه فرض العين، كالعلوم الدينية ، وفرض الكفاية ،كبعض العلوم الدنيوية ،مثل الطب، والحساب…

*-علوم الدنيا تشكل أداة للعلوم الشرعية الأساسية  ،منه المحمود كالنحو واللغة ، و كالطب، والفلك،  وكالفلسفة  ،خاصة الحساب ،والهندسة، والطبيعيات ،والمنطق، والسياسة ،والأخلاق …والمذموم كالسحر، والتنجيم ،والفلسفة ،بالخصوص الإلهيات ،والمباح ،كالشعر، وتاريخ الأخبار.

2-التجلي المهني:ويعترف فيه الغزالي بالحاجة إلى المعلم ،في معرض انتقاده للباطنية، بشرط أن يكون معصوما من الخطأ، ولايجترح السيئات كالمعلم الأول محمد(ص) ،والدعاة الذين كونهم ،ومن يسير وفق منهجه التام من معلمين ،يشكلون القدوة على اعتبار أن العلم ،هو أساس الإيمان ،والعمل الصالح .إحياء ص25 .يقول تعالى : » اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ،ورضيت لكم الإسلام دينا ».المائدة :3 .

3-التجلي الوظيفي: يعتبر الغزالي التعليم مهمة خطيرة ،وعظيمة يقول الغزالي : »التعليم أفضل من سائر الحرف والصناعات » إحياء ص14  ، لذا على المعلم أن يحترم آدابه، وينهض بوظائفه ص57 و58 و59 إحياء :

1-تبني المتعلمين ،ورعايتهم ،واحتضانهم.

2-الشفقة على المتعلمين، وخلق المحبة ،والتعاون بينهم.

3-التعليم دون أجر ،ولا يتوخى منه  تحقيق الجاه ،ولا السمعة. فالغاية من ممارسته، التقرب من الله ،وتصديق منهج رسول الله (ص). يقول الغزالي : »طلبنا العلم لغير الله ،فأبى أن يكون إلا لله » إحياء ص50.

4-قياس تعلمات  المتعلمين، وتقويم رتبهم.

5-تحفيز المتعلمين على طلب كل العلوم، ولا نقبح لهم علما من العلوم ص59 إحياء.

6-مراعاة مستوى المتعلمين . يقول الغزالي : »كل لكل عهد بمعيار عقله ، وزن له بميزان فهمه ، حتى تسلم منه ، وينتفع بك ،ولا يذكر له وراءه، تدقيقا يدخره عنه ، فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي ،ويشوش عليه قلبه ،ويوهم إليه البخل به عنه ».إحياء علوم الدين ص30.

7-عدم الجمع بين علمين ،والتدرج فيه ،والانتقال من الجلي إلى الخفي، ومن البسيط إلى المركب، ومن السهل إلى الصعب ص60 إحياء. يقول الغزالي: » إن أول واجبات المربي، أن يعلم الطفل ماسهل عليه فهمه، لأن الموضوعات الصعبة ،تؤدي إلى ارتباكه العقلي ،وتنفره من العلم. » ص59 إحياء

8-الجمع بين العلم والعمل ،وإعطاء القدوة ،فالعلم » يدرك بالبصائر، والعمل يدرك بالأبصار »ص60 إحياء.

9-تفادي التدليل، والتعويد على الخشونة، وأداء الواجب، حتى لايتجرأ المتعلم على المعلم، بسبب سقوط التكليف.

4-التجلي المنهجي : يقول الغزالي : » إذا لم تتقدم رياضة النفس ،وتهذيبها بحقائق العلوم، نشبت بالقلب خيالات فاسدة . »إحياء علوم الدين ص26

 يصرح حجة الإسلام بأن الغاية من العلم ،هي التزكية، والتوجيه، والتهذيب ،المرتهن بتلقي حقائق علمية يقينية، تكون ثمرة اصطناع المنهج الشكي، الموصل إلى اليقين ،وهو منهج فكري ،تمت صياغته بعد الاستفادة ،من المنهج الفلسفي اليوناني ،خاصة عند أفلاطون ،وأرسطو ،ومن منهج الجرح والتعديل، الذي اعتمده علماء الحديث أثناء تدوينه ،وجمعه . يقول الغزالي : »فإني إذا علمت أن العشرة، أكثر من الثلاثة …لم أشك بسببه في معرفتي، فأما الشك فيما علمته لا …ثم علمت أن كل مالا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لاثقة به ،ولا أمان معه .وكل علم لا أمان معه، فليس بعلم يقيني. » المنقذ من الضلال ص5 .

ويقوم هذا المنهج على عدة معايير، كالعقلانية، والمنطق ومحك النظر، والتطبيقية ،ويمثل سبقا زمنيا، وعلميا لمنهج الشك ،الذي اشتهر به- فيما بعد- روني ديكارت ،عالم الرياضيات الفرنسي: »كلما شككت، ازددت تفكيرا ،فازددت يقينا بوجودي » .

6- التجلي التربوي: وفيه يتجلى السبق الغزالي في تحديد بعض سمات سيكولوجية الطفولة، خاصة سمة الفطرة ،والقابلية للتعويد ،وتعديل السلوك ، على فلاسفة ،وتربويين ،خاصة جون لوك : »الطفل صفحة بيضاء ،تنقشه الخبرة، والتعليم . »وكذا ممارسة اللعب ،والحاجة إلى الرعاية، والاحتضان ،والتحفيز، والراحة بعد تعب،  وزجر الخلق السيئ، بطرق الرحمة لاالتوبيخ، والتأديب بالحوار، والتوجيه  ،والإقناع لا بالترهيب ،والوعيد ،والضرب ص59 إحياء …يقول الغزالي : »إن الصبي أمانة عند والديه ،وقلبه طاهر، جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش ،وصورة. وهو قابل لكل ما نقش ،ومائل إلى كل مايقال. فإن عود الخير وعلمه، نشأ عليه، وسعد في الدنيا ،والآخرة، وشاركه في ثوابه ،كل معلم له، ومؤدب .وإن عود الشر ،وأهمل إهمال البهائم شقي، وهلك ،وكان الوزر في رقبة القيم عليه ،والوالي له. » ص78 ج3 إحياء. واقتبس الغزالي هذا التصور المتقدم حول الطفولة من ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ص69 ط2 : » فإن نفس الصبي ساذجة ، لم تنقش بعد صورة ،ولا لها رأي، وعزيمة، تميلها من شيء ،إلى شيء. فإذا نقشت بصورة ،وقبلتها نشأ عليها واعتادها ». وتقوم المقاربة التربوية للغزالي ،على ثلاثة مبادئ كبرى هي :

1-التعويد على الفضائل، مثل الأخلاق ،والحشمة والوقار، والتواضع، والعطاء ،وطيب الحديث ،والإقلال من الكلام ،والصبر، وممارسة الرياضة.

2-الإذن باللعب ،فهو وسيلة للتوازن النفسي ،والتهييئ للدراسة ،وتنمية الذكاء، وتوفير السلامة ، المساعدة على الإدماج ، يقول الغزالي  » صحة النفس والبدن  ،تتحقق من اعتدال مزاج البدن ،عندما يتكامل الجسم والنفس.  » ص 56 إحياء.ويقول : » كل مولود يولد معتدلا صحيح الفطرة » »البدن في الابتداء لايخلق كاملا ، وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية والغذاء » » النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، إنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم « . ص66 ج3 ط2  وينهض اللعب بثلاث وظائف هي :

أ-يروض جسم الصغير، ويقويه.

ب-يدخل السرور ،ويريحه من تعب الدروس.

ج-يروح عن النفس، ويزيل المشقة، ويدفع السآمة والملل.

3-الحفظ من الرذائل:من قبيل قرناء السوء، وحب الرفاهية ،والنوم نهارا، والافتخار، والمباهاة ،والحلف بالله صادقا ،أو كاذبا، والسرقة، وأكل الحرام ،والبصق والتثاؤب.

خلاصة

إن منهج الغزالي العلمي رائد في عصره، استطاع أن يمارس توجيهات هامة ،و تأثيرات إيجابية على البنيات التكوينية ،العلمية و النفسية ،والتربوية ،للنظريات والنماذج الغربية الحديثة. أما آن الأوان، لنأخذ به في صياغة المناهج ،والمقررات ،ومعيرة المعرفة، وفي تدبيرا لفصول الدراسية ،ومراعاة اهتمامات ،ومؤهلات المتعلمين،وحاجياتهم ،وضبط العلاقات بين أضلاع المثلث الديداكتيكي: المعلم، والمتعلم، والمادة المدرسة ،لتجسيد شعاره الخالد : » العالم والمتعلم شريكان في الخير وتحصيل العلم من أجل التعليم ».

*-إحياء علوم الدين للإمام الغزالي مكتبة ومطبعة كرياطة فوترا سماراغ إندونيسيا.

*-إحياء علوم الدين مكتبة المصطفى.

*-إحياء علوم الدين نشر مركز الأهرام للترجمة والنشر مؤسسة الأهرام شارع البخلاء القاهرة.

*-المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال نشر موقع الفلسفة الإسلامية.

 

 

 

 

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.