وفي العمل السياسي تزكية
يتساءل المرء عن السبب الذي جعل أغلب الإسلاميين، سواء منهم الذين انتصروا لفكرة العمل السياسي وانخرطوا فيه أو الذين حذروا منه ومن خطورة تضخمه، يستحضرون فقط الأثر السلبي للعمل السياسي على العمل التربوي، ولا ينتبهون بالشكل الكافي إلى العائد الإيجابي على المستوى التربوي للفرد المشارك.
وبيان ذلك أن ما قد يبدو في الظاهر سلبيا، هو في الحقيقة إيجابي ومفيد، باعتبار دور العمل السياسي في كشف وإبراز الاختلالات التربوية التي تظهر على الفرد المشارك، ومن ثم التنبيه إلى ضرورة الاجتهاد في تصحيحها وتقويمها والارتقاء بالمستوى التربوي لمواجهة كل الإغراءات والابتلاءات التي ترتبط عادة بالمشاركة في تدبير الشأن العام.
إن مسألة «الاقتصار على استحضار الأثر السلبي للعمل السياسي على العمل التربوي» ساهم فيها تبني رؤية منغلقة للتربية لا تلتفت إلى المؤشرات الحقيقية التي تختبر بها العملية التربوية، خلال المشاركة السياسية. إنها تكشف ما لم تستطع فضاءات العملية التربوية أن تكشفه سواء من الهامات العالية والمعادن النفسية في تمثل القيم وتشربها، أو من النماذج التي افتضحت نزعاتها السلبية وبرزت حظوظ النفس لديها وطغت على ما تشربته من القيم الإيمانية.
فإذا كان من طبيعة العمل التربوي أنه المجال الذي تقل فيه حظوظ النفس وتقل فيه فرص التنافس على المواقع والمغانم، وبالتالي يستدعي أرقى نزعات الخيرية في الفرد، فإن العمل في الشأن العام، باعتباره مجال المواقع التي تغري بالمغانم والامتيازات، يمتحن حظوظ النفوس ويكشف النزعات السلبية، ويختبر مدى قدرة منسوب القيم التربوية على النجاح في كبحها أو محدوديته في ذلك.
ومن ثم، فإن أعظم فائدة تربوية يمكن أن تعود على المشارك في العمل السياسي هي أن تضع مشاركته بين يديه التشخيص الدقيق لأدواء العملية التربوية وأعطابها، وتدفعه إلى الاجتهاد في تصحيحها وتقويمها.
لقد كان من الممكن الوقوف على هذه المعاني، وإدراك أثر المشاركة في الشأن العام وأهميتها في عملية التربية والتزكية، لو تأملنا المرتبة التي نالها «الإمام العادل» في حديث «السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله»، إذ ذكر في المرتبة الأولى سابقا على غيره، لكن للأسف فقد جرت العادة في مجالسنا التربوية عند تناول هذا الحديث بالمدارسة، أن يتم القفز مباشرة إلى المرتبة الموالية التي يذكر فيها «الشاب الذي نشأ في عبادة الله»، مع أن التأمل في مغزى جعل «الإمام العادل» في المرتبة الأولى، واضح في الدلالة على الدور الذي يضطلع به العمل في الشأن العام في اختبار وقياس منسوب تمثل القيم التربوية لدى خريج العمل التربوي، وعلى أن شهادة التزكية الإيمانية، إنما ينالها المشارك في الشأن العام الذي يتجرد لخدمة الناس ويجتهد في كبح نوازعه السلبية وينازع حظوظ نفسه، ويتعفف عن المال الحرام، ويمتنع عن استعمال الموقع أو السلطة التي أسندت إليه في غير الصالح العام، ويستغني بفضل الله عن سواه من المغانم والمواقع والمصالح غير المشروعة.
وهذا المعنى هو المقصود أيضا في ذكر الشاب في المرتبة الموالية على اعتبار أنه معرض أكثر من غيره للإغراء ولذلك لا يمكن جعل صلاح الشيخ وصلاح الشاب سواء، وإن كان الصلاح مطلوبا منهما معا، وهذا المعنى نفسه نجده في ذكر الحديث للذي «دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين» في إشارة إلى أن الذي يتعفف رغم الإغراء الشديد لا يمكن تسويته مع من لم يتعرض للإغراء.
والخلاصة إن العائد التربوي لا يمكن الاطمئنان إليه إلا إذا خضع للاختبار ووضع تحت المحك، وإن الإسهام في تدبير الشأن العام فرصة ذهبية حقيقية لهذا المحك على اعتبار أن الدعوة غالبا ما تخرج أحسن ما في الإنسان، وأن السياسة في الغالب قد تستدعي أسوأ ما فيه
الأستاذ: محمد الحمداوي رئيس حركة التوحيد والإصلاح
Aucun commentaire