كرنفال « باشيخ » وتجليات التعدد الثقافي
يتعجب مولييراس ـ وهو يصف احتفال « باشيخ » بالريف ـ من شيئين، أولهما اشتمال الاحتفال على إشارات ومضامين متنوعة تخالف المعتقدات والتقاليد الاجتماعية والدينية السائدة، وثانيهما تجاوب رجالات الدين والسلطة والأعيان مع هذه الفرجة والحرص على مشاهدتها بالرغم مما فيها من أفعال ومواقف لو أتاها أحد في غير هذا الإطار لعوقب عقابا صارما.
ما هذا الاحتفال إلا مجموعة من المظاهر الفنية والثقافية التي جاء بعضها من الماضي السحيق للأمازيغيين، وبعضها من الحضارات والثقافات المجاورة والوافدة التي تحاورت معها الثقافة الأمازيغية، ثم انصهر جميعها في قالب مهرجان احتفالي على مراحل وبالأقساط عبر التاريخ ، أي ظلت تنمو وتتطور متغيرة ومتحولة بحسب الظروف لتساير نمط الحياة السوسيوثقافية السائد في كل مرحلة.
واحتفال باشيخ، كما وصفه مولييراس، بقوله : » وسننتهز فرصة مرورنا بأكثر الريف مرحا، للكشف عن حفل هو من أكثر الحفلات استمتاعا من طرف الريفيين ويدعى الكرنفال، و لا نجد شبيها له في الأجزاء الأخرى من المغرب، سواء لدى العرب أو لدى الأمازيغيين. وحدهم الريفيون يعرفون ويمارسون المسخرة ، إلا أنهم لا يتبجحون بذلك خارج منطقتهم، لأنهم يدركون مسبقا بأن المسلمين الآخرين سيستقبلون بنوع من القرف هذا اللعب التهريجي الغريب، فهل يمكن اعتبار هذه المادة استمرارا للألعاب التهريجية الرومانية .
كيفما كان الحال، فإن الكرنفال الريفي الحالي يحافظ على تقليد قديم تمتد أصوله إلى غابر الأزمان، ويقام ثلاث هذا الحفل الغريب ثلاث مرات في السنة : عند حلول السنة الهجرية الجديدة وفي العيد الكبير(عيد الأضحى) والعيد الصغير (عيد الفطر) ».
ويشتمل هذا الوصف التقديمي على العديد من الإشارات إلى عقائد مختلفة وطقوس وشعائر متباينة الجذور والمقاصد :
– لعب تهريجي ساتيري روماني (اللعب الماجن)
– ثقافة أصلية عريقة
– الدين الإسلامي (العيدين والسنة الهجرية)
وخلال وصف أطوار هذا الحفل وفقراته، تظهر إشارات أخرى منها :
– الديانة اليهودية (الممثل اليهودي وزوجته)
– ((الطقوس السحرية ذات الاصول الإفريقية ( الاعتقاد بالقوى الروحية لشخصية الباشيخ)
– الطقوس الاحتفالية الزراعية(التقنع بالنباتات وجلود الحيوانات)
– العنصر الدرامي الشبيه بالعروض التمثيلية
– المعتقدات الأسطورية ))
وهكذا يعبر هذا الاحتفال عن تكوين ثقافي متميز استطاع أن يجمع بين المتناقضات ويوحد بينها، واستطاع أن يربط بين بقايا ديانات واحتفالات وثنية أصيلة ورومانية وشعائر ترجع إلى تقديس الطبيعة بحيواناتها ونباتاتها ومراسيم سحرية وروحية غامضة وبين طقوس وشعائر إسلامية وأحداث ووقائع اجتماعية متجددة، وكما لاحظ عبد الله حمودي، فإن هذا الاحتفال قد جعله المجتمع المغربي يجمع بين طقسين كبيرين متعارضين تحت علامة واحدة.
وللوقوف أكثر على مدى قدرة هذا الحفل في التعبير عن تعايش معتقدات متعددة ومتناقضة، وعن الأفق المتسع والمتسامح للمتلقي الأمازيغي، أورد بعض الفقرات المهمة التي أوردها مولييراس في وصفه :
« فما إن تشرق الشمس حتى تهرع الحشود غلى الشوارع منتظرة ظهور الأشخاص الخمسة الذين سيقومون بلعبة المسخرة الوحيدة بالبلدة (وهذا العدد لا يتغير),
وفجأة سيعلن صراخ الأطفال عن مجيء شخص مقنع على هيأة قاض، وسيجلس هذا الأخير فوق ركام من زبل السماد هيأ خصيصا له، منتظرا بهدوء، على مقعده المقزز، حضور المتقاضين، أي الأشخاص المقنعين الآخرين الذين لن يتأخروا في المجيء، ويرتدي هذا القاضي الغريب بذلة من الخيش وتتكون عمامته من شبكة صيد صغيرة الحجم […….] وسينقل الحشد نظره من القاضي نخو الأقنعة الأربعة الوافدة على القرية من الخارج والمكونة من : » با شيخ (رب الأسرة) وزوجته والحمار واليهودي المرافق له.
وما أن يظهر باشيخ وزوجته بباب القرية، حتى يهرع الحشد باتجاههما ويسقطهما أرضا, حينها سيتظاهر اليهودي بالنحيب أمام منظر سيديه المتمرغين في التراب، غير أن باشيخ سينهض وسيجري باتجاه الحمار رافعا عصاه. وطبعا فإن الضربة التي كان من المفروض أن توجه إلى الحيوان، ستسقط على رأس العبري الذي سيلوي عنقه من الألم وسيسقط أرضا. وستنطلق الضحكات من الحشد الذي سينعت الإسرائيلي بأقذع الشتائم وسيجشع الحمار وسيده, وستتابع المجموعة السير تحت وابل من الكلمات البذيئة، أي تحت كل ما يتضمنه القاموس الريفي من كلمات بذيئة ومنحطة، بحيث يطلق العنان لهذه الكلمات بشكل تصاعدي، في جو من الحماس الشعبي الهستيري. وهنا يحدث المشهد الأكثر بشاعة، أو لنقل عقدة المسرحية التي ينتظرها المتفرجون بنفاذ صبر.
وسيفسر القاضي بكلام نصفه عربي ونصفه أمازيغي، بأن كل عدالة يحترم نفسه، لا يمكنه أن يصدر حكما غلا إذا ما تقاضى قطعا نقدية من فئة 100 فلس، وسيعتبر باشيخ بأن الاقتراح طبيعي جدا[…]
إذا كان الدارسون الإثنوغرافيون والأنتروبولوجيون يؤكدون أن الطقوس الاحتفالية من الوسائل الأولية والأساسية التي تعرف من خلالها أنماط السلوك الاجتماعي لدى الشعوب وأشكال تفكيرهم وتدبيرهم للحياة، فإن كرنفال « باشيخ » يعبر بوضوح بأن الثقافة الاجتماعية الأمازيغية موسومة بالانفتاح وحب التعايش في إطار التنوع والاختلاف، وأنها تتفاعل مع سواها من الثقافات وتأخذ منها ما تضيفه غلى عناصرها الأساسية وتصوغ الكل في قالب أصيل متجاوب مع انتظارات وآفاق الاستجابة للجمهور.
– أوجست، مولييراس، المغرب المجهول، الجزء الأول، اكتشاف الريف، ترجمة د. عزالدين الخطابي، منشورات تيغراس، العدد 2، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، العدد الأول، 2007، ص. 117.
-إدمون، دوطي،السحر والدين في إفريقيا الشمالية، ترجمة فريد الزاهي،منشورات مرسم،مطبعة بورقراق، ص 343 – 367 وفي نفس الصفحات يكشف دوطي ، خلافا لما أورده مولييراس، أن مثل هذا الاحتفال يوجد بجميع مناطق المغرب والجزائر وتونس ولبيا وحتى مصر، وتشترك كلها في عناصر ثابتة وموحدة.
-محمد، جسوس، » ملاحظات حول مكانة الثقافة الشعبية في تحولات المغرب المعاصر »، الثقافة بين المحلي والوطني،) كتاب مشترك( ، جمعية الجامعة الصيفية بأكادير ، أعمال الندوة الثالثة، منشورات عكاظ، الرباط.
Aucun commentaire