عن أي مشروع ثقافي تنموي تتحدث النخبة المغربية ؟
عن أي مشروع ثقافي تنموي تتحدث النخبة المغربية ؟
د بلقاسم الجطاري
كلية الاداب والعلوم الانسانية وجدة
-تقديم
تتأسس مقاربتنا سؤالا ونقدا على لحظتين مركزيتين: ففي اللحظة الأولى سنقدم عناصر رؤية سوسيونظرية لبعض القضايا التي يثيرها المشروع الثقافي التنموي الوطني كمشروع مساءلة نقدية لبعض المفاهيم التي نتداولها اليوم في الموضوع. وفي اللحظة الثانية سنركز على مواكبة هذا المشروع في علاقته بالمجهودات التي بدلت في ما يتعلق بالتنمية الجهوية لمنطقة الريف باعتبارها إطارا سوسيوثقافيا في منظومة التداول الاقتصادي المعاصر بين المؤسسات المهتمة بشأن التنمية.
يدخل في صلب تصور التنمية الثقافية تحضير كل القطاعات والبنايات في أفق خلق تفاعل جدلي يهدف بالأساس إلى تحقيق الرخاء للإنسان المغربي الذي يعتبر العنصر الأساسي في نسق كل مشروع تنموي، وعلى خلفية هذا الطرح يتسع مفهوم التنمية في تقديرنا ليشمل عناصر لم يتم لحد الآن الانتباه لأهميتها، كالمشروع الثقافي ذي الارتباط الوثيق بالتراث المغربي بشقيه المادي والروحي.
من هذا المنطلق صار الشعور ثوبا براهنية الاهتمام بالمجال التراثي الثقافي المحلي وتكيف عناصره القابلة لأن تكون منتوجا إقتصاديا يساهم في توسيع وعاء الدخل المحلي وتحقيق روافد الدخل القومي ،
لا أحد يناقش في الدور الأساسي للتراث الثقافي الأمازيغي على اعتبار أن وجود المغرب كما نعرفه اليوم يرجع الفضل فيه إلى تراثه. كتب Paul Marty سنة 1925 في مؤلفه المشهور « مغرب الغد » Le Maroc de demain فقرة تدل بوضوح على أن الفرنسيين كانوا آنذاك يعتبرون أنفسهم ورثة شرعيين للرومان في احتلالهم لأراضينا وأن من حقهم أن يعودوا إلى هذه الديار بعد غياب دام خمسة عشر قرنا، فلا عجب بعد ذلك أن يكون الفرنسيون طوال عهد الاستعمار قد كرسوا جهودهم في البحث التاريخي والتنقيب عن الآثار الاركيولوجية لإحياء ذكرى روما والإشادة بمميزاتها الحضارية في المغرب القديم.
لكن الفرنسيين رغم تعصبهم لكل ما هو أوربي الأصل فقد كان لهم الفضل في تنبيه المغاربة إلى ضرورة كشف الآثار وترميمها والحفاظ عليها، فلولاهم لمازال الخاص والعام منا يخرب ما بقي من أنقاض.
فبفضل الأوروبيين أدركنا أن الآثار العمرانية المادية تعد من العناصر الأساسية المكونة للذاكرة الجماعية وأنها أصدق شهادة من أي كتاب في التعريف بالماضي.
أما في الحقبة الممتدة من 1956 إلى يومنا فقد انصب اهتمام المسؤولين المغاربة في تدبير الشؤون الثقافية على إبراز ما هو إسلامي من الآثار، فحدث نوع من التباري والمنافسة في الذهاب أبعد ما يمكن في هذا الاتجاه بالتوازي مع تعريب ما يمكن تعريبه من أسماء الآثار والأماكن فنسي أولئك المسؤولون أننا في المغرب وأن للمغرب شخصية تاريخية تمتد جذورها في عمق العصور القديمة، -في عمق- يقاس بالآلاف من السنين لا ينبغي أن يتنكروا له، كما لا ينبغي بالطبع أن يتنكروا لما هو عربي فيه ولا بالأحرى لما هو إسلامي، فجرهم نسيانهم ذاك إلى بتر ماضينا -نحن المغاربة- وقرروا أن يؤرخوا للأرض بل للعرق، فجعلوا أول درس يتلقاه أبناؤنا في تاريخ المغرب هو المدينة والقبيلة العربية قبل ظهور الإسلام وكأنه لم يكن في المغرب قبل الإسلام قبيلة ولا مدينة وكأن جاهلية المغرب كانت أكثر ظلامية وأشد كفرا من جاهلية جزيرة العرب.
إن التنمية الثقافية هي في عمقها تحفيز إنساني للانخراط والمساهمة وفق آليات متداخلة يحصل بموجبها الاقتناع ثم الانخراط والمشاركة في قاطرة التنمية البشرية. وكأني بذلك أريد أن أشير إلى مرحلة أساسية في سيرورة التنمية وهي إقناع المواطن وإخراجه من حالة الاغتراب المفروضة عليه في عناصر هويته وتكسير حواجز الممانعة ورد الاعتبار هي –في نظرنا- السبل الكفيلة لإنجاح فكرة التنمية الثقافية المحلية وبعدها الوطنية .
ظلت الممارسة الثقافية بمنطقة الريف شفوية القناة جماعية الطابع إلى حدود سبعينيات القرن الماضي حيث ستعرف طريقها إلى الكتابية. وبذلك صارت ثقافة مكتوبة تنطلق من مفهوم جديد للثقافة وخلفيات إبداعية وفنية مغايرة لتلك التي تصدر عنها الثقافة الشفاهية. بيد أن هذا التأخر في المرور إلى الكتابية لم يكن بالأمر العادي أو التلقائي، وإنما يجد تفسيره من خلال شروط تاريخية كثيرة بعضها ذاتي وبعضها موضوعي.
لعل أبرز تلك الشروط ما ميز المغرب عموما ومنطقة الريف خصوصا من مناخ سياسي متوتر كان من تبعاته التوجس من كل ما هو محلي وإقصاء جميع التعبيرات الثقافية غير المرتبطة بإيديولوجية الدولة ومرجعياتها. بل ومن العوامل الحاسمة التي يمكن الإلماح إليها في هذا السياق تشجيع الدولة والطبقات السائدة لثقافة امازيغية رديئة ومميعة
وقد كان لهذا الصراع غير المتكافئ بين الدولة والعمق الشعبي داخل الساحة الثقافية أن نشأت حالة غريبة وغير سوية. ذلك أن فئات عريضة من الناطقين بالأمازيغية أصبحوا ينظرون إلى كل ما له صلة بخصوصيتهم الثقافية على أنه إنتاج منحط وغير جدير بالاهتمام في ظل الانبهار بثقافة الآخر ولغته أيا كانت. وهذه الحالة التي لا يمكن وصفها إلا بالاستلاب لا يمكن وصفها إلا من منطلق النظرية الخلدونية بالتغلب الحضاري.
وفي ظل غياب الاعتراف الرسمي، وسيطرة أشكال التعابير الرديئة، ونظرا إلى عدم وجود مؤسسات ثقافية قادرة على توفير شروط تغيير الممارسة الثقافية عموما والأمازيغية على الخصوص ـ ونخص بالذكر هنا مؤسسات النشر ـ كان لابد من انتظار أن تتهيأ الشروط الموضوعية المناسبة لذلك.ويمكن إجمال أهم تلك العناصر الآتية:
– تمكن نسبة من أبناء الريف وبناته من ولوج المدارس العصرية رغم أن هذه المنطقة كانت من المناطق التي شهد فيها الولوج إلى التعليم العصري تأخرا ملحوظا على مستوى الكم والكيف.وقد تيسرت الفرص لعدد لا يستهان به منهم لمتابعة دراساتهم العليا.
فلدى مناقشة هؤلاء الطلبة اطاريحهم الجامعية اندمجوا في الجامعات المغربية وحملوا لواء تجديد الوعي والتحسيس بمسألة الهوية والثقافة الأمازيغية مستفيدين من اطلاعهم على تجارب الحركات الهوياتية وعلى المناهج العلمية الحديثة، واحتكاكهم بأطر الحركة الثقافية الأمازيغية التي كانت سباقة في هذا المضمار.
وقد التف حولهم لفيف من الطلبة والشباب المثقفين المتخرجين من المدارس والجامعات بعد توسيع قاعدة المستفيدين من توسيع التعليم،والمتحمسين للانخراط في ورش تجديد الثقافة الأمازيغية بالريف.ومنهم تشكلت النواة الأولى من الباحثين المتخصصين في الدراسات الامازيغية التي بدأت بواكير أبحاثهم تظهر من خلال الأيام الثقافية قبل أن تعرف طريقها إلى النشر لاحقا في شكل دراسات ودواوين ومجاميع إبداعية.
– وعي الجيل الجديد بضرورة تجديد الممارسة الثقافية من خلال إعادة النظر في مفهوم مشروع التنمية الثقافية ووظيفته،قصد إعطائها نفسا جديدا بعد أن سيطر على الساحة الثقافية عموما بالريف نموذج تقليدي استهلك نفسه وعجز عن مواكبة التحولات التاريخية التي اعترت المنطقة على أكثر من صعيد.
واللافت للانتباه أن نهضة الحركة الثقافية بالريف وتحولها جاءت مواكبة للتحول الذي طرأ على الساحة الثقافية الوطنية.وهذا ليس بالأمر المستغرب اعتبارا للارتباط الكاثوليكي بين المثقف الامازيغي والموروث الثقافي المحلي من جهة، ومن جهة أخرى لكون المثقفين الامازيغ أنفسهم في كثير من الأحيان هم في الوقت ذاته أطرا و باحثين و ادباء.
لقد خلقت الشروط السابقة مناخا ثقافيا جديدا وهيأت المجال لظهور أطر و باحثين في الدراسات الامازيغية من طينة أخرى، لم تعد تكتفي بتصريف إنتاجاتها بالوسيلة الشفوية التقليدية، وإنما عمدت بالموازاة مع ذلك إلى البحث عن قنوات أخرى تضمن لدراساتهم ثباتها ونصيتها. وقد وجدوا ضالتهم بداية في بعض المطبوعات التي تصدرها الجمعيات أو الجرائد المحلية التي صدرت لاحقا والتي جعلت من أولوياتها
1- تشخيص واقع التراث الثقافي المادي و الروحي المحلي وإبراز الإشكاليات والأولويات.
2- وضع الحلول الممكنة لمسألة تهميش اللغة و الثقافة الامازيغية
3- تعبئة المؤهلات الثقافية ذات العلاقة القوية بالكفاءة وترجمتها في شكل مبادرات تنموية وتحسيس الفاعلين المحليين بالانخراط في حركة تنموية تنطلق من الغة و الثقافة الامازيغية.
4- توظيف الديناميات والمبادرات المحلية المنبثقة عن المجتمع المدني في جهود تأهيل المجالات التراثية الثقافية الامازيغية ووضع أسس استراتيجية محلية لتقويم الحس السوسيوثقافي لساكنة المنطقة.
5- وضع بنك للمعلومات والأفكار والمشاريع الكفيلة للمساعدة على تحقيق مختلف الأهداف من خلال جرد كافة المؤهلات المتوفرة والمفروضة بفعل الزمن المعرضة للضياع وربما للزوال.
إن الواقع يفرض علينا اليوم وبإلحاح ، تنمية الأشكال الثقافية التراثية واللغوية وإدراجها في المؤسسات التعليمية، مما سينقل الإنسان المغربي من المرحلة الشفوية المهيمنة إلى المرحلة الكتابية والإعلامية وفي تقديرنا أأأألأن تنمية التراث الثقافي الأمازيغي من خلال مأسسة كتابتها سيعزز من إمكانيات الاندماج والتنمية الجهوية والوطنية.
.
وبالنتيجة فإن نقد هذا التأثير السلبي المزدوج على الحقل التراثي الثقافي المحلي يستلزم استراتيجية علمية منفتحة على مستويين:
1) مستوى نقد الميتافيزقا التي تقوم بطريقة لاعقلانية على سلطة الغيب (المقدس والمدنس في التراث).
2) نقد نسق الأفكار والمفاهيم التي يتداولها علم السياسة الوطنية حول المغرب مجتمعا وتراثا وثقافى.
إن هذه المفعولات السلبية على الحقل الثقافي الوطني المحلي ،هو ما يجعل هذا الأخير لا يمتلك في الوقت الراهن وسائل التعبير والممارسة الإبداعية، ولهذا السبب فإن الفاعلين الثقافيين إما أنهم يستبطنون مشاعرهم وانشغالاتهم وأشكال إبداعهم الاجتماعي والفني والجمالي وإما أنهم يمارسونها بطريقة فولكلورية وهجينة. وبكلمة واحدة فإن الحقل التراثي المغربي الأمازيغي المحلي راهنا، حقل محاصر فكرا وممارسة. ونعتقد بأن هذه الوضعية تزكي بوضوح فرضيتنا حول عدم إفصاح المعطى الإبداعي للتراث الثقافي المغربي الأمازيغي على حقيقته ونخلص إلى القول بأن هذا المعطى لا يمكن أن يجسد في ظاهريته مركزا للحقيقة التاريخية سواء من زاوية نظر السياسي المحترف أو ممارس العلم بطريقة إختبارية.
ربما قال قائل بأن هذه الأسئلة ذات نزعة فكرية مغرقة في النظرية، تعرقل الاستراتيجية التنموية المتوخاة محليا ووطنيا وأقول جوابا على هذا الافتراض:
إن غياب فكر نقدي منفتح وذو هاجس ابستملوجي، يخلخل ويؤزم وضعية المفاهيم العلمية ويمزق بداهتها التقنوية العنيدة ليس معناه سوى شيء واحد: سقوط الممارسة العلمية جملة وتفصيلا ومن ثم فشل التنمية المحلية بأبعادها السوسيواقتصادية والثقافية.
نلاحظ أن عدم حضور هذه الأسئلة أو ربما حضورها بطريقة مغايرة أو عكسية في صميم الرؤية العلمية للموضوع التراثي الثقافي المحلي كان إلى حد ما سببا من الأسباب التي أدت إلى إشاعة تصور أقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه ضيق لإمكانية القبض السهل على عناصر ومقومات المجالات التراثية الأمازيغية المختلفة ومن ثم تراجع التنمية البشرية. خاصة ونحن نشعر أنه يكاد ينعدم في برامج التنمية الثقافية حضور لهاجس التعدد الحضاري في بناء الذات الوطنية المعاصرة ويظل شعار الاندماج التنموي للريف في محيط المشاريع القائمة، شعارا إداريا بيروقراطيا وقادما من المركز لأنه إذ يتعامل مع الريف بطريقة فهو يضعه في كل الأحوال أمام خيارين:
فإما الاندماج القسري في محيط البضاعة الثقافية الرائجة وذلك له تأثيرات سلبية.
وإما البقاء على الهامش.
لقد سبق لأحد الخبراء المعاصرين في قضايا الحداثة السياسية أن كتب كتابا سماه « ما هي الديموقراطية » بناء على طلب منظمة اليونسكو أن أبرز بشكل واضح لا يدع مجالا للشك أن «مجتمعا متجانسا من الناحية الثقافية يعتبر مجتمعا مضادا للديموقراطية» إن لم يكن مناهضا لإمكانية خلق مجتمع ديمقراطي حقيقي قادر على ربح رهانات التنمية بمفهومها المعاصر.
وربما كان المطروح علينا في الوقت الراهن، إذا سمح لنا أن نستعير مقولة مشهورة لـ Herbert Marcuse وهو أن ننجز في الحقل الثقافي المغربي: طفرة للإختلاف الكيفي بمعنى أن نجعل جميع أشكال التراث المغربي ثقافيا تسجل حضورها الملموس في الواقع كبنيات معرفية مبدعة وتنتمي إلى هذا الوطن وبكلمة واحدة كيوتوبيات اجتماعية أقصيت من التاريخ.
Aucun commentaire