مات الشهداء وبقي أبناؤهم يتجرعون مرارة اليتم وهم ينزوون في ركن معزول في انتظار أب حبيب لن يعود. لن يعود الشهيد ولكن قبل المغادرة ترك رسالة مدوية تخرق كل الآذان الصماء التي لا تزال تعبث بالنيران ولا تحسن التصرف في مواقف الحديد والنار..الشهداء وحدهم من له الحق ليتكلم ولتخرص كل الألسنة..الشهداء هم وحدهم من سيحكي لنا ما وقع وما دار في مدينة العيون المجروحة. فالشهداء وحدهم لهم الحق في الكلمة بل ولهم حق الإسهاب في الكلام المفيد لأنه كلام الشهيد.
أرضي أسقيها بدمي كي يعيش فيها شعبي حرا أبيا ينعم بخيراتها ويتلذذ بالسلام في ربوعها..بلادي الحبيبة روحي قليل عليها..ودمي هو وحده من يروي تراها لتنمو سنابل الرخاء ويزهر زيتون السلام.
الوطن كلمة حبها إيمان والتضحية من أجلها جهاد، والموت دونها شهادة..الوطن البيت..الوطن السكينة ..الوطن الأمن والأمان..الوطن النوم الهادئ والحلم الجميل.

وحده الإنسان الحر من يموت من أجل الوطن..وحده الرجل الذي لا يزال يعرف شيئا اسمه الكرامة وقيمة اسمها الأنفة وأخرى اسمها العزة من يموت من أجل الوطن..وحده من يعطي الأولوية للوطن على النفس والولد من يموت من أجل الوطن..وحده الذي يرابط في الحدود ويتحمل قساوة البرد وحرارة الشمس من أجل حمى ثغور الوطن من يموت من أجل الوطن..وحده الشرطي الذي لا يقبض رشوة ولا يبتز المواطن من يموت من أجل الوطن..وحده الجمركي الذي يتعامل مع سفرائنا في الخارج بحب وترحيب وموضوعية ولا يطمع في علبة شاي أو يتحايل للحصول على أموال غصب هو الذي يموت من أجل الوطن..وحده الأستاذ الذي لا يدعي المرض ويشتري الرخص لتعطيل حصص التدريس وتضييع مستقبل البلاد..ويقوم بالواجب بمسؤولية وصدق ولا يتوانى في أن يكون رسول العلم والباحث المجدد في آلياته ووسائل عمله..من يموت من أجل الوطن..وحده المحامي الذي لا يحجز مستحقات موكليه من أبناء الشعب ليستثمرها في مشاريع خاصة أو يبيع القضية للخصوم مقابل دراهم معدودات وحده من يموت من أجل الوطن..وحده البرلماني والمستشار والوزير الذي يتأفف عن مس درهم في صندوق الدولة ويؤدي ما عليه من ضرائب ويقوم بما في عنقه من واجبات وحده من يموت من أجل الوطن.
الوطن غال ونفيس ولن يموت من أجله من يبيع ويشتري في الأعراض ويبتز الضعفاء ويأكل أموال اليتامى ويستولي على الأراضي والضيعات..

لن يموت من أجله المسؤولون الذين إذا عاهدوا المواطنين أخلفوا وإذا تكلموا كذبوا وإذا انتُقدوا حجزوا وحرضوا وشتموا وضربوا.. لن يموت من أجل الوطن صاحب القلم المأجور الذي يرضى لنفسه تزوير الحقائق والتماهي مع الظلمة والدفاع عن المجرمين الذين يحترفون جر الوطن إلى الخلف وإغراقه في مستنقع التخلف والتردي والانتكاس. لن يموت من أجل الوطن من يعمل على إقصاء الشرفاء والمخلصين خوفا على الكرسي أو المركز أو القيادة..لن يموت من أجل الوطن من يتنافس مع المتنافسين في جمع الأموال الحرام وشراء العقارات داخل وخارج الوطن..لن يموت من أجل الوطن من يبيع قضية فلسطين ويتاجر في القدس والأقصى..لن يموت من أجل الوطن من لا فرق عنده بين الملك العام والملك الخاص..لن يموت من أجل الوطن من يشتري الضمائر ويمتهن الكذب على الذقون كلما جاء استحقاق أو انتخاب..لن يموت من أجل الوطن إلا مثل هؤلاء الجنود المواطنين الذين بصدق يعشقون هذا الوطن وقد باعوا أنفسهم الغالية العزيزة من أجل الوطن لأن الوطن أغلى وأعز.