Home»National»التنمية الرشيدة

التنمية الرشيدة

0
Shares
PinterestGoogle+

كنا قد نشرنا على صفحات هذا المنبر في الأسبوع الفارط مقالا بعنوان « مدينة وجدة: أي تنمية؟ »، أغناه بعض القراء الأفاضل بآرائهم. وتلك سمات القراءة النافعة. ومما يثلج الصدر أن تجد طائفة من الناس على قدر من الوعي بحيث لا ينخدعون بمظاهر الأشياء عن حقائقها، ولا تصرفهم الصور والمباني عن المضامين والمعاني. ينضاف إلى ذلك أن التعاليق أجمعت على أولوية المحافظة على البيئة، وضرورة إيلاء هذا الموضوع الصدارة أثناء التفكير في مشاريع تنموية كيفما كانت. وقد نتفق على اتخاذ البيئة مؤشرا على صلاح التنمية أو فسادها. فما كان من المشاريع مُراعيا لسلامة البيئة ومحافظا على الطبيعة، مُنَمِّياً لها عُدَّ مشروعا صالحا. وما أهمل الشرط الطبيعي أو أضر بالبيئة حاضرا أو مستقبلا، عُدَّ مشروعا فاسدا، وجب طرحه ولو كان ظاهر المشروع براقا، فما كل ما يلمع ذهبٌ أو فضة.
ونوَدُّ في هذا المقال أن نتابع الكلام عن التنمية مستمسكين بالمبادئ نفسها، لنكشف أن تنمية البلد قائمة على الارتجال والعشوائية، تسيرها المصالح الشخصية وتقلبات الأمزجة. تنميةٌ لا مستقبل لها لِقيامها على منطق التقليد والتجريب، لا الدراسة والخبرة.

وسنضرب لذلك أمثلة حية من واقع مدينة وجدة، صالحة لأن تعمم على أغلب حواضر المغرب الكبرى، كما فعلنا ذلك في المقال المذكور.
نقرر الآن أن التنمية نوعان: تنمية غائية وتنمية صورية. فأما التنمية الغائية فهي التنمية التي تفكر في الغايات قبل أن تفكر في الوسائل. إنها التنمية التي تطرح السؤال : « لماذا؟ »، وقبله « ماذا؟ ». وهما سؤالان على قدر من الأهمية بحيث لا غنى لأي تنمية جادة عنهما. فالسؤال « ماذا؟ » يتوخى فهمَ المشكل أولا، بينما يبحث السؤال « لماذا؟ » عن حلول ممكنة مستصحبا الغايات. ولا يكون السؤال الباحثُ عن الوسيلة المناسبة إلا متأخرا، وذلك سؤال « كيف؟ ».
ومتى ما كان منطلقُ التنمية الأسئلةُ المطروحة كانت تنميةً إنسانية، ذلك أن غايتها هو الإنسان. والغاية المقصودة هنا تحديدا هي سعادته. لكن ما المقصود بالإنسانية هنا؟ إذ ما من مشروع تنموي إلا وهو يدعي أنه ينشد الخير للإنسان ويروم مصلحته وتحصيل سعادته. فحتى الذي ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما وناكازاكي يزعم أنه فعل ذلك من أجل خير الإنسان في العالم!! فلكي لا يكون الكلام عن إنسانية التنمية دعوى فضفاضة وكلاما مبهما، نشير إلى خصائص التنمية الرشيدة: 

الاستبصار: ونقصد بذلك أن يستند المشروع التنموي إلى دراسة تتصف بالإحاطة والشمول. فيتم تأجيلُ التنفيذ إلى غاية تَبَيُّن نتائج المشروع كلها. فقد نُغَرُّ بفائدة مشروع ما من الناحية الاقتصادية فنمضي إلى العمل، لكن سرعان ما يتبين سوء الاختيار على مستوى البيئة. ونحسب أن ما حصل من توسيع للطريق الرئيس في السعيدية من هذا الصنف التنموي الضار. فقد تمَّ التوسيع على حساب الغابة التي كانت جزءً لا يتجزأ من إيكولوجيا المنطقة. وإذا تبين لنا مثلا أننا سنربح مائة كلم بتشييدنا لطريق سيَّار إذا ما تم اختراق غابة كثيفة، فالواجب حينها أن نغير اتجاه الطريق حفاظا على الغابة، ولو كلفنا ذلك مائة كلم إضافية. 

الاعتبار: وهو أخذ العبرة مما تَحَصَّل لدى الآخرين، ومما سلف من النماذج التنموية عبر العالم. ثم تشريح الفلسفات المُؤسِّسة والرؤى الناظمة للتنمية الغربية على الخصوص. ورُبَّ قائل ما حاجتنا إلى هذا الأمر؟ فنقول إن الحاجة ماسة، ذلك أن الملاحظ أن تنميتنا قائمة في مجملها على التقليد. بل هي مُصِرَّة عليه وعاقدة العزم على أن يبلغ التقليد منتهاه. وليس العيب في الاتباع في حد ذاته، ولكن العيب كل العيب في الاتباع على غير هدى. والحاصل أن الغرب كان أسبق إلى تجريب مشاريع تنموية، واتخذ سبلا متعددة لتحقيق التقدم والازدهار، لكن الطرق لم تكن كلها ناجعة، بل كثير منها ثبت عدم صلاحيته، وكثير من المشاريع التنموية تم التشكيك في جدواها فخضعت للمراجعة وإعادة النظر.

لكن الفاعلين عندنا يغفلون عن ذلك كله أو يتغافلون، فتراهم يصرون على المضي بالمشروع إلى حيث انتهى عند أصحابه الأولين. فهل من ضرورة علمية أو واقعية تلزم بتكرير المراحل نفسها والخطوات ذاتها؟ أليس العاقل من اتعظ بغيره؟
وبالمثال يتضح المقال: هل يكون علينا أن ننشئ الصناعات الملوثة وننشر الغازات السامة ونستخدم المخصبات المهجنة ونمتلك الأسلحة المدمرة ونصنع المبيدات الضارة ونستعمل الأدوات التقنية المشكوك في أمرها…ثم ننتظر أن تتأسس جمعيات مدافعة عن البيئة، وأحزاب خضر ومنظمات للسلام لنخوض صراعا ضدها كما هو الأمر في الغرب، ويومٌ لك ويوم عليك؟؟ أم يكون المطلوب أن نستفيد مما حدث ويحدث فنختصر الجهد والزمن والتكاليف؟
وإذا تبين أن الغرب منكب على التفكير الجدي في الطاقات البديلة، فهل يجوز التذرع بكوننا لم نبلغ بعدُ هذه المرحلة الحرجة؟؟ ومن ثم فلا أتصور عاقلا يقول بضرورة استنساخ التجربة الغربية بخيرها وشرها. وكيف نجعل من الغرب النموذج الأمثل ونحجر على الفكر والعقل رغم الشواهد والحقائق؟؟
وإننا لنتساءل في هذا المقام عن جدوى القنوات الكبيرة التي دُفِنت تحت الأرض، لتُجَنِّبَ المدينة الغرق الذي يتهددها كل شتاء من جراء سيول سيدي معافة، أو حتى غزارة الأمطار في زمن وجيز. فهل تقي هذه القنوات حقا مخاطر الفيضانات المتوسطة حتى لا نقول الكبيرة؟ نستحضر هنا التجربة الكندية، فبعد فيضان النهر الأحمر سنة 1950 شُيدت قناة واسعة لتحويل مياه النهر عن الأماكن المعرضة للغرق. وقد ظهرت ثمرة هذا العمل خلال فيضان 1997 المشهود، حين نجت منطقة « وِنِيبِج » من كارثة محققة. لقد استعيض عن القنوات المدفونة تحت الأرض بمجاري مكشوفة، هي أشبه بالوديان منها بالمجاري العادية. أما حين تدفن القنوات تحت الأرض فانتظرْ ارتفاع تكلفة الإصلاح والصيانة الدائمة…مع الرجاء أن تستوعب هذه القنوات السيول المنهمرة. 

الاستشراف: والمقصود بذلك أن يتم التفكير في العواقب. واستحضار المقبل من الأيام، استعدادا للمفاجآت، وخصوصا غير السارة. أما التنمية ذات الأفق المحدود فإنها لا تنجو من دوامة التخبط والارتجال.

ولذلك نرى الطريق المعبَّد يحفر ثم يُعَبَّد عشرات المرات. فحَفرٌ لتمرير أنابيب الصرف الصحي ثم تعبيد، ثم حفر لأنابيب الماء الشروب ثم تعبيد، ثم حفر لأسلاك الكهرباء…وهلم حفرا وتعبيدا. وبالطبع لا نستبعد ما وراء ذلك من مآرب. فهنالك جهات يسرها الحفر والتعبيد غاية السرور! بل إنها لتتفاءل بذلك!
وما ضاقت مدينة وجدة بأهلها إلا لغياب البعد الاستشرافي عن أغلب المشاريع لتعمير المدينة. ضاقت الطرق وضاقت الأسواق وضاقت المدارس …حتى ضاق الناس بعضهم ببعض. وإن المرء ليعجب كيف يغيب هذا البعد عن مشاريعنا في زمننا هذا وقد كان حاضرا عند أسلافنا قبل قرون خلت. فهذه قرطبة مثلا شُيِّدَت على شكل خمسة أحياء كبرى منفصل بعضها عن بعض، وفي كل حي أسواقه وصناعاته ومرافقه الضرورية ما يكفي أهله، بتعبير المقري في « نفح الطيب ». يحدث هذا في القرن العاشر الميلادي، بينما يضطر الوجديون في الألفية الثالثة إلى التوجه إلى وسط المدينة (الجوطية) ليتزاحموا ويتدافعوا ويسرق بعضهم بعضا. وما ذلك إلا لأنه لم يتم التفكير في توزيع الأسواق على المدينة برمتها، فاجتمع كل شيء في الجوطية، من « الكيّاسة » (كيس الحمَّام) والزعفران إلى الأَسِرَّة والأبواب والشبابيك.
و الكلام عن قرطبة يجرنا إلى الحديث عما يقف المرء مندهشا إزاءه، تلك هي « قنطرة قرطبة »، الواقعة على نهر الوادي الكبير، والمعروفة باسم « الجسر » و »قنطرة الدهر ». وكان طولها أربعمائة متر تقريبًا، وعرضها أربعين مترًا، وارتفاعها ثلاثين مترًا. وكلما ذُكِرَ هذا الجسر ذكرتُ الطريق المزدوج المؤدي إلى أحفير، فأتساءل لماذا عجزنا عن تشييد جسر في المنطقة المهددة بسيول « الكاف »، إلى غاية سيدي حازم؟ وأمضينا شهورا متتابعة والشاحنات تنقل الأتربة إلى المكان حتى يرتفع مستوى الطريق! 

الحاجية: وذلك أن يكون المشروع التنموي قائما على حاجة قائمة. فيكون القصد إما جلب مصلحة أو درء مفسدة. فليس المطلوب تحقيق الوفرة والتنعم المفرط. وإنما المطلوب طلب ما يفي بالحاجة، ومقياس ذلك التوسط في الأمور كلها. فالاستهلاك مثلا ليس مطلوبا لذاته، ولذلك لا يشجع الناس على الإكثار من الاستهلاك، ليكثر الطلب فيضطر العرض للمواكبة، فيرتفع الإنتاج…وهكذا دواليك. فلا شك أن هذه الدوامة المفرغة لا نهاية لها ولا بداية، ولا يتولد عنها غير الشقاء لعدم اتضاح القصد. 

تنمية ثقافية: تستهدف تغيير أسلوب التفكير ونمط التعقل. فرُبَّ مشروع تنموي نافع لا يُكتَب له النجاح بسبب ذهنيات جامدة، أو أساليب في التفكير متخلفة، أو طرائقُ عيشٍ بائدة، أو عوائد استهلاكية متوارثة. ومثال ذلك أن بعض الأسواق (القيساريات) لم تشهد الرواج التجاري المأمول لأسباب ثقافية، قد يكون منها التعود على التسوق من مكان بعينه، أو الاعتقاد بأن أثمان السلع أخفض في هذه السوق…وقد لا يكون للسوق أي قيمة مضافة، بل قد تكون أسوأ حالا وأخسَّ خدمة. وكثير من الدول الغربية يلجأ إلى صرف ميزانيات ضخمة ليس لها من قصد غير التوعية والتحسيس. فما لم يتحقق هذا الشرط فما بعده لاغٍ بالضرورة. ومثال ذلك ما قامت به هولندا من توعية طرقية استهدفت سائقي السيارات، لتَجَنُّب الازدحام والحرص على توفير المنافذ. ولقد أتت التوعية أُكلها. نقصد هنا العملية التي أُطلق عليها اسم « السلسلة ». 

تنمية قيمية: فالتنمية التي لا تسترشد بقيم الخير والحق والجمال والعدل تنمية متوحشة. أما قيمة الجمال فتكاد تكون غائبة عن مشاريعنا التنموية. ولقد مضى الزمن الذي كان فيه التطاول في البنيان واختراق الأحياء مهما ضاقت بالطرق المعبدة دليلا على التحضر. فكثير من أحياء مدن أوروبية، ولاسيما المدن الصغرى، يشيد الآن بلا طرق للسيارات. بل تتجمع سيارات الحي كلها في مرأب، حرصاً على نظافة الحي وتوفيراً لسلامة أطفال الحي. فلا يكون بين المنازل غير مساحات للراجلين، ولا حاجة حينها لمَرأب في كل بيت.
ومن القيم الجمالية التي اندثرت في مدينة وجدة اعتناء السكان بغرس الأشجار داخل البيوت. فكنتَ لا تكاد تجد بيتا من بيوت الوجديين ليس في فنائه شجرة عنب أوتين أو ليمون…وكثير من البيوت كان يحتوي على بئر. هذا قبل أن تملأ الأجهزة الإلكترونية بيوت الناس، وتصبح علامة على التحضر، رغم جهل مُقتَنيها أبسطَ مبادئ اشتغالها. فما يهم هو مشاهدة التلفاز، لا معرفة الكاثود والأنود والشعاع الإلكتروني والشاشة الفوسفورية…وما إلى ذلك من وجع الرأس!
هذه خصائص التنمية الرشيدة كما نتصورها، وأما التنمية الصورية فهي على النقيض مما قيل في شأن التنمية الرشيدة. وإذا كان من اللازم بيان خصائصها فإننا نشير حينئذ إلى ما يلي:

–تنمية شكلية، تقتصر على تغيير المظهر لا المخبر.
–تنمية تفكر في الوسائل وتهمل الغايات، فلا سؤال لديها غير سؤال الكيف.

–تنمية عوراء لا تحيط بالموضوع من كل جوانبه. ولا نرى مثالا مُعبِّرا عن هذه الصفة أفضل من مشروع « فاديسا » على شاطئ السعيدية.

تنمية عجولة، وعجلتها هذه تمنعها من استشراف المستقبل، فهي تنمية بلا أفق.

–تنمية بلا رؤية ثقافية ولا قيم حضارية.
وليس بعد هذا البيان من مزيد، فهل من تنمية رشيدة؟

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *