Home»National»المقامة التفتيشية

المقامة التفتيشية

0
Shares
PinterestGoogle+

حدثنا تعيس بن النبهان قال: جاءني المفتش يسعى، تاركا أقرب مقهى.

قال: يا أستاذ أبشِرْ وتهلَّلْ، درسُك اليوم أفضل. لكنَّ وجهَ الصواب، أن تستعين بالكتاب. تقرأ أنت أوَّلاَ، فتُذلِّلُ لتلميذك الصعاب. وعليك بضرب المثال، ولا تُكثر الجدال. فذلك أقربُ للأَفهام، وبه يتضح المرام. والسبورةُ بالعدل تُقْسَم، جانبان ووسطٌ في وَسْطِهِ خطٌّ يُرسَم. فتلك أربعة أقسام، أعدلُ قسمة بالتمام.

قلت: يا مفتشُ مهلا، حللتَ أهلا وسهلا. هذا قسمٌ للكبار، وما ذكرتَه اختيار، وليس الكبار كالصغار.

قال: فإنَّ للدرس جُذاذه، ولكل درس عَتادَه. تُوجِّهك إلى المطلوب، وهي أصناف وضروب. حصن حصين مكين، وحاملُه واثق رصين. يحفظ الأستاذ من الاستطراد، وهو دليل الاستعداد. به تتبينُ الحدود، فلا يقع الأستاذ في الشرود.

قلت: فنجاح الدرس مشهود، ولا يصنع النجاحَ قُعود. وَهَبْ أني ملأت أوراق الدنيا، بما جدَّ من التربية والبيداغوجيا. وجئْتُك بها مدبَّجه، مشرقة مُبْهجه. وبخطوط وألوان، وتصاويرَ حِسَان. وكنتُ أنا مشغولَ البال، أفكرُ في ديون البقَّال، والماءِ الذي قطعوه ومطالب العِيال. أتكون الجذاذة كافيه، وسماؤنا صافيه، وتشهدُ لي بالنجاح، والصلاح والفلاح؟ فالدرس ما ترى وتسمع، لا ما يُخطُّ ولا ينفع.
فقال المفتش في الحال: فأين دفترُ النصوص؟ لا تقل لي سرقَهُ اللصوص، أو هو في البيت تام غير منقوص، يَلْزَمُهُ فقط بعض الدروس فيكون كالبنيان المرصوص. أم ستختلق الأعذار والعِلل، وتصطنع الأكاذيب والحِيَل؟

فقلت: إنه قابع في محفظه، مُكتَنِزَةٍ مُكتظَّه. مهجور منبوذ مَهين، في حِرْزِه آمنٌ ركين. لا يسأل عنه تلميذ، متغيب أو جديد. أثقلتُمْ به كاهلي، يرافقني نهاري وليلي. والنفس هائمة تملؤه على مَضَض، ولو خُيِّرْتُ لَأَنشبْتُ فيه أنياب العَض.

فقال: فإنك لا تكتبُ غيرَ عناوين، على السبورة وما أقلَّ المضامين. أم تُراكَ تخاف من الطباشير، قل لي يا صاحب المعاذير. أم أنك في اقتصاد وتدبير، اُكتبْ فالطباشير وفير.

قلت: بي حساسية أصابت اليدين، لا يُبْرِئُها طِبابُ الثقلين. ثم أين هي السبورة البيضاء الملساء الناصعة؟ والأقلام الزاهية الباهية الرائعة؟ يا سيدي عهدُ الطباشير وَلَّى، وبالحاسوب اشتغالُنا أَوْلَى. أم تريدُني أن أُغَبِّرَ وجهي بالبياض، والمسؤولون يتنزهون في الرياض؟

فقال: وما بال التلاميذ لا يشاركون، ما لي أراك تتكلم وحدك كالمجنون؟

قلت: ضعافٌ يرجون الكفاف، وأولاءِ سنواتٌ عجاف، نعوذ بالله من الجفاف. خدعوهم بنقاط مزيَّفه، واختبارات عرجاء مكيَّفه. فلمَّا جَدَّ الجِد، ولا ينفع غير الكد، ذهل المساكين، وعلموا علم اليقين، أن الجهل عار والعلم نور، وتضخيم النقاط شهادةُ زور.

قال: فهَلاَّ أَبَنْتَ لي أيَّ مهارات، حقَّقَ درسُك وأيَّ كفايات؟

فقلت: ألا ترى أنهم أربعون، لو قالوا السلام عليكم أجمعون، لطار قلبي من الفَرَق، ولرأيتَ السقف ينشق؟ فكيف وَلي عشرةُ أقسام، أتَعَهَّدُها كما تُتَعَهَّدُ فِراخُ الحمام؟ وهل أنا إلا كما قال القائل: ألقاهُ في اليَمِّ مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتلَّ بالماء
ثم ابتَدَرْتُهُ بالسؤال: لكن أفِدْني يا مفتش في الحال، ألم تكن أستاذا يوما ما؟ هل يغيب عنك ما قلتُ أم تُراكَ في عَمى! فطأطأ الرأسَ والدمعُ همَى، وأجابني في كآبة وانتقاع، لا تَنْكَإ الجروح وتُقَلِّبِ الأوجاع. من القسم فررتُ والله شهيد، وليس للقسم إلا رجل من حديد، أعصابُه باردة وقلبُه من جليد. ثم مضى راجيا لي التوفيق والتسديد، والحياةَ السعيدة والعمرَ المديد.

فقلت لتعيس بن النبهان، فإنك وصاحبَك في شنآن.

قال: كلاَّ، فقلد بعث لي بتقرير، يقول فيه: كان الله في عونك، فاسأله التيسير، إنه على ذلك قدير.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

10 Comments

  1. papi
    15/06/2010 at 00:01

    مقامة تدل على الخبرة وحسن التدبير وتستحق كل التقدير لأن من خلالها يتجلى سوء الفهم والتسيير لبعض أصحاب التأطير

  2. عيسى بن هشام
    15/06/2010 at 00:01

    كثر الثرثارون و قل المجدون. و أصبح المشعود المحتال يجيب عن كل سؤال. حتى اضحى المفتش النزيه عرضة للتشويه. يتجاسر عليه الصغار و الكبار، في واضحة النهار. فالعيب على من بدأ بنشر الغسيل، منتهزا ظلمة هذا الزمن الذليل، فإذن خلا لكم الجو فاصفروا و طبلوا ،كما تشاؤون، و زمروا

  3. أستاذ
    15/06/2010 at 00:01

    إن التفتيش أصبح عملا روتينيا يقوم به المفتش، عمل لايقدم ولايِؤخر. ولذلك وجب التفكير الجدي في طبيعة هذه المهمة، وكيف يمكن إعادة الحيوية والحياة لها.

  4. مصطفى
    15/06/2010 at 00:02

    هنيئاً لك يا تعيس بن بن النبهان على هذا الوفاق الناذر مع المفتش، على الأقل وجدت من يقدر الوضع ولم يفقد ذاكرة القسم

  5. اب تلاميذ
    15/06/2010 at 00:02

    لو انفقت هذا الوقت الذي اضعته في كتابة هذه ( المقامة ) في تحضير دروسك وتصحيح واجبات وفروض تلاميذك لكان افيد . فلا اله الا الله وحده لاشريك له .

  6. بوستة
    15/06/2010 at 00:02

    ما لا أفهمه هو كيف يروم المفتش تقويم عمل الأستاذ من خلال سويعة في سنة؟ ثم ماذا يفعل المفتشون باقي السنة بصراحة؟ لا جديد عندهم ولا إنتاج معرفي أو تربوي، إلا القليل منهم،وما أقل هذا القليل. وعملية التفتيش برمتها تصبح بلا معنى بالنسبة للأساتذة القدامى، حيث وصلهم من التقارير المكرورة ما لايعد ولا يحصى

  7. معلم
    15/06/2010 at 00:02

    والله إنه الوصف الدقيق لما يقوم به أغلب المفتشين

  8. prof
    15/06/2010 at 00:03

    merci bcp Mr sadki pour ce chef-d’oeuvre.vous m’avez tant impressionné, mais cette fois c’est le top. bonne continuation!

  9. SADKI
    15/06/2010 at 00:03

    سابت احوال المفتش حتى و لينا نتعلمو فيه الهضرة و التقشاب
    اينكم يا معشر المفتشين الغيورين على سمعتكم

  10. aboumoncef
    15/06/2010 at 00:03

    شكرا للأستاذ صادقي على هذة المقامة الصادقة في معناها المحبوكة في مبناها

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *