قراءة في ديوان الأحجار الفوارة لمحمد علي الرباوي الجزء الخامس

3- الأحجار الفوارة: النصوص وتجلياتها.
لقد سبق أن استمدت بعض جوانب الحوارات في المحور السابق، وهو ما سماه محمد مفتاح في مؤلفه (تحليل الخطاب الشعري) بالحوار الداخلي، وهو مجمل: » الآليات التي يتناسل بها النص ويتوالد حتى يصير كيانا قائم الذات »(ص- 82). وبالفعل فقد تشكل النص الشعري أو النصوص التي تنبني تحت عنوان (الأحجار الفوارة) لتكون ذاتا متكاملة أساسها الماء تارة والنار تارة أخرى. وبعد ذلك تحول الاتجاه إلى أهم النصوص والمرجعيات التي كانت أساس بناء هذه النصوص الأولية، أو الحوار الداخلي الذي يقصد منه: » حوار النص مع النصوص الخارجية التي ليست من صميمه، ما يقع بينه وبينها من علاقات تعضيد أو علامات تنافر » (تحليل الخطاب الشعري، محمد مفتاح، ص- 82.)، ولا بد أن نعين أن النص فسيفساء من النصوص الأخرى الخارجية، كامنة في ذات المبدع ليحولها إلى تناغم وانسجام داخليين. بمعنى أن التناص هو: » تعالق (الدخول في علاقة) نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة » (محمد مفتاح، ص- 121).
في هذا السياق، نجد محمد علي الرباوي يبني تعالقاته مع أهم مصدر له، هو القرآن الكريم، والسماحة التي فطر عليها الشاعر، تجعله أكثر التصاقا بهذا المنبع، ومتميز كذلك بتمييز وتشكيل بعض صوره العامة ليحولها حسب ما شاءت قريحته أن ينعم بها.
إن مثل هذا البناء قد يدفعنا للقول إن محاولة الرباوي تتبنى بعض الاقتباسات القرآنية ستجعله موضوعيا أكثر منه ذاتيا، أي أن يحول المسير العام الذي سبق أن فصلنا فيه، لكن وبالنظر إلى عامين نفند هذا القول، وهما:
أولا: كون الشاعر لا يفصل بين الذاتي والموضوعي، إذ : » يبقى الذاتي والموضوعي عند الرباوي قضية واحدة لا تقبل التجزيء، ما دامت العلاقة بينهما جدلية جدلا يشترط حضور الذات في موضوعها ومواجهة الموضوع للذات التي تمنحه صفته الموضوعية. » (محمد بنعمارة، مقال: قراءة في المشروع الذاتي من خلال الأعشاب البرية، العلم الثقافي، ع 778، 1986، ص- 3). والاتجاه ذاته نجده عند أدونيس الذي يفصل في صوفيته بقوله: من لا ذات له، لا موضوع له » (زمن الشعر، ص- 288).
ثانيا: باعتبار التناغم بين النصوص والانسجام الكلي الذي سبقت الإشارة إليه، لا يمكن الفصل بين تيمة الموضوع والذات، وتداخلهما يفرض علينا أن نكون حريصين على عدم التمييز بينهما مع غلبة الذات على الموضوع عند الشاعر محمد علي الرباوي: » لأن القصيدة لا تبدو لك هي في الحقيقة ذاتية، ولكن الموضوع أخفى الذات. » (حوار مع الشاعر).
على هذا الأساس يمكننا أن نستخرج أهم التناصات الموجودة في المجموعة الشعرية، ونحن متأكدون أنها مجرد تثبيت للهموم الذاتية، ولعل اختيار بعض النصوص القرآنية التي تحمل مثل هذه الخطابات دليل على ما نقول. يقول محمد علي الرباوي:
أني ألقيت بنصفي في أدغال الجب المتسكع بين نجاح الصحراء، وما زينت قميصي بدمي المغبر، إذن فأنا متهم بسريقة ذاتي. » (ص- 54).
وهذا المقطع يردنا حتما على الآية المثبتة في أول المجموعة الشعرية وما يليها في سورة يوسف عليه السلام.
ويدخل هذا النوع من التناص في ما يسمى بالمناقضة عند محمد مفتاح، فمحمد علي الرباوي يستلهم الفكرة من قصة يوسف الذي رمته أيادي إخوته في الجب إلا أنه يناقضها فيرمي نفسه فيه، لكن لا يفعل ما فعله إخوة يوسف إذ أتووا أباهم عشاء يبكون، متأبطين قميص أخيهم ملطخا بدماء الذئب (كذبا وبهتانا)، فالشاعر لم يزين قميصه بدمه الأغبر، وهنا نقف عند بؤرتين دالتين هما:
الأولى: كونه لم يقل لطخ قميصه، وإنما زين، والتزيين تحقيق للمتعة والجمال، فكأنه كان يتمنى أن يزين به، لكن لم يكن له ذلك.
الثانية: أنه لم يزين بدمه هو، وإنما بدم ذئب يوسف، فالذات موغلة هنا كذلك، وأخيرا فهو غير متهم بسرقة ذاته.
يقول في مقطع ثان:
ما كلمت الناس
ثلاثة أيام رمزا أو إشارة
ما كلمت الناس حبيبي
فابعث لي بشارة (ص- 36).
والعودة هنا أيضا إلى الآية المصاحبة للديوان في مقدمته( قال كذلك قال ربك هو علي هين، وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا، قال رب اجعل لي آية، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) (مريم الاية، 8-9).
فالشاعر يرضخ لأمر الله الموجه إلى مريم فيتغاضى عن تكليم الناس. هنا نطرح السؤال، لماذا يتحاور الشاعر وهذه النصوص القرآنية؟
لعل الإجابة بسيطة، بفعل تعرفنا المسبق على الهموم التي يحملها الشاعر، والظلم المسلط على ذاته، فكذلك الأمر بالنسبة لكل من يوسف الذي لقي حسدا وكيدا من طرف إخوته، ومريم التي اتهمها قومها بالفجور بعد حبلها بالنبي عيسى عليه السلام.
ننتقل على نوع آخر من التناص، وهو متناثر في جل مقاطع المجموعة الشعرية. ونأخذ نماذج منها:
النص الشعري — الصفحةالآية الكريمة
– يبقى حبل من مسد يربطنا ص- 16.
– كوني أنت على عبدي بردا وسلاما 26.
– هل أقدر أن أعطي لك أمرا 74.
– لأعزز محبوبي
لأوقر محبوبي 76.
لأسبح محبوبي صبحا وأصيلا
– يا ذاتي زلزلت الساعة شيء
فالناس سكارى في الطرقات وما هم بسكارى ولكن عذاب القهر شديد 94. » في جيدها حبل من مسد »
» يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم »
» ولا أعصي لك أمرا »
« إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، لتومنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا »
ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد »
وغيرها من التلميحات، كقوله:
أترى ما زلت وراءك نلهث كالمخمور وفي الرمل الغضبان تسوخ حوافرك الظمأى (ص- 14).
وبنفس التحديد نجد صلاح عبد الصبور يقول في قصيدة الخروج:
سوخي في الرمل، سيقان الندم.(الديوان ص- 263).
ولفظة تسوخ مستوحاة من حدث الهجرة النبوية الشريفة، حيث ورد أن سيقان الحصان الذي كان يمتطيه « سراقة » للحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم ساخت في الرمل ولم يستطع الاستمرار في الملاحقة. ويقول عبد الله الغذامي في تحليل المقطع نفسه من قصيدة صلاح عبد الصبور: » ولنربط بين سوخي وسيقان ويتجلى معناهما بوضوح حين نستبدل بهما احتمالات لفظية أخرى مثل غوصي بدلا من سوخي. فقد كان بإمكان الشاعر أن يقول (غوصي) والوزن واحد، ولكن الشاعر أراد ما تحمله كلمة (ساخ) من إيحاء بالخسف، وهو ما حدث لقوم لوط (ورد في القاموس: والأرض بهم سوخانا أي انخسفت) » (الغذامي، كيف نتذوق قصيدة حديثة، مجلة فصول، م 4، ع 4، 1984، ص. 97).
إذن نجد للقرآن حضورا قويا في شعر محمد علي الرباوي، وما ذلك غلا رمز للتحدي الذي يركبه الشاعر يعبر عن انتمائه إلى الذات المسلمة المؤمنة بقدرها. فهو إن كان متذمرا نفسيا غير راغب في حالته التي يعيشها إلا أنه يحمد الله:
حبيبي تعلم ما في القلب فإن شئت رحمت، فإنك أحنى الأحباب. وإن شئت غضبت، فإني عبدك عدل حكمك، فاحكم، أنت الحكم، أنت القهار، لك الملك، لك الحمد ( ص- 54).
هكذا تنمو الحركات الداخلية للشاعر، لتصبح إيمانا قويا بالقدر المحتوم، وتستمر هذه الاحتمالات حتى بعد أن يثمر المجهود الفعلي في حياته، أي بعد صدور (أول الغيث) دالا ودليلا على انبلاج الصبح. يقول في آخر مقطع في المجموعة الثانية:
أنا عبدك الملحاح. وفي عفوك المنثور.
كالنور يا مولاي ها إنني أطمع
لك الحمد إذ تعطي
لك الحمد إذ تمنع
لك الحمد يا مولاي
لك الحمد، لك الحمد (أول الغيث، ص- 43).
إن هذه الالتفاتة، تؤكد أن مرجعيات الشاعر محمد علي الرباوي كانت تنهل من موردين اثنين أساسيين:
ا
لمورد الديني: بكل خصائصه ومميزاته، بدءا من القرآن الكريم والحديث النبوي إلى السيرة النبوية.
المورد الشعري: العربي والغربي، إذ إن اهتمامه بالشعر العربي القديم والحديث جعله يسوخ في رمال اللغة الموحية، وليست اللغة الغامضة، وهنا يبقى دور المتلقي في إبراز الغامض المحتمل، أي الغامض المستور في دائرة النص. والغموض هنا لا يعني الإبهام بقدر ما يلزم المتلقي تعرف جل الثقافات التي ينهل منها الشاعر. ونجد هذا التعريف في النقد العربي القديم. فهذا ابن قتيبة يقول عن أبي نواس إنه: » كان متفننا في العلم، وقد ضرب في كل نوع منه بنصيب. »(الشعر والشعراء، 2/ 682). مبرزا ذلك من خلال بعض أشعار الشاعر، وكيف أنه يقنع القارئ أن ليس هناك غموض في الشعر بقدر ما نجد تنوعا في الدلالات والمعاني التي على المتلقي إبرازها. وفي هذا الموضوع كلام كثير قد فصل فيه جل الدارسين من ذلك ما صدر أخيرا عن سلسلة عالم المعرفة في طرح بعنوان( الإبهام في شعر الحداثة، لعبد الرحمن محمد القعود)، الذي انتهى فيه إلى التأكيد أن: » الإبهام في شعر الحداثة العربية المعاصرة شيء قار فيه، محايث له بسبب عوامل ثلاثة، ومن خلال مظاهر ثلاثة، أما العوامل فهي الفاعل الثقافي والمعرفي وما فيه من بعد فكري وفلسفي وميتافيزيقي وصوفي وأسطوري… وعامل الثقافة والمذاهب الأدبية الغربية… كما أن الرمزية والدادية والسريالية من هذه المذاهب، هي مسرب أخر مهم لهذا الإبهام) (ص- 378).
هذا رأيه، ولكل شرعة ومنهاجا، لكن المتفق عليه هو ضرورة تشبع القارئ بقسط وافر من الثقافات حتى يستطيع فك هذه الرموز.




Aucun commentaire