حديث الجمعة : (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ))

حديث الجمعة : (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ))
محمد شركي
لازال الحديث المتعلق بسجايا وصفات وأحوال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في الذكر الحديم متواصلا بعون الله تعالى ومشيئته ، ويعلق الأمر في حديث اليوم بما جاء في الآية الكريمة التاسعة والعشرين من سورة الفتح التي يقول فيها الله تبارك وتعالى مشيدا منوها به عليه الصلاة والسلام هو وصحابته الكرام عليهم رضوان الله تعالى أجمعين : (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما )) . ولقد أعقب هذه الآية الكريمة حديثا عن سكينة أنزلها الله تعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام وعلى صحابته الكرام رضوانه تعالى عليه ، وعن استحقاقهم كلمة التقوى التي ألزمهم ، وعن الرؤيا التي أراها رسوله صلى الله عليه وسلم والتي كانت بشارة له بدخول المسجد الحرام الذي كان كفار قريش يمنعونه من دخوله دخولا آمنا ، وببشارة قرب فتح مكة المكرمة الميمون .
والملاحظ أن كل ما ورد في هذه الآيات السابقة للآية موضوع هذا الحديث تضمن تنويها برسول الله صلى الله عليه وسلم وبصحابته ، لهذا افتتحت بذكر اسمه الشريف وصفته العظمى التي هي حمل رسالة الله الخاتمة للبشرية جمعاء (( محمد رسول الله )) . ولقد استوقف المفسرين الأسلوبُ الذي افتتحت به هذه الآية الكريمة وقد أفاد التنويه برسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال ذكر اسمه الشريف الذي اشتقت أحرفه من الحمد، وكفى بهذا تشريفا له. ووجه التنويه به عليه الصلاة والسلام في استعمال هذا الأسلوب جاء على ما ألفه العرب في أساليب كلامهم ، ذلك أنهم كانوا إذا ذكروا سجايا أحدهم أشاروا عقب ذلك إليه إشارة تنويه بقولهم مثلا » فتى » كما قال الشاعر مادحا :
فتى عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
أي هو الفتى وأنعم بكرمه . ولما كان كلام الله تعالى بلغة العرب وبأساليبهم ، فإن كلام الآيات السابقة عن الآية موضوع حديثنا عبارة عن تنويه حيث أشار الله تعالى إلى المنوَّه باسمه الشريف وبصفة رسوليته العظمى. ولقد أشار بعض المفسرين إلى أن التنويه هو القصد الأرجح في هذه الآية ، وليس مجرد ذكر اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم ومهمته ،لأن ذلك ثابت له لا يحتاج إلى مزيد إثبات ، وعليه فمتى ما تكرر ذلك في كتاب الله إلا كان تنويها به وتشريفا وتعظيما له عليه الصلاة والسلام .
وقد يسأل سائل ما بال ذكر الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية والمقصود بالتنويه هو الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ؟ والجواب كانوا قد ذكروا في الآيات السابقة عليها وقد نوه بهم الله تعالى أيضا مع تنويهه واستمر التنويه ، واستمر التنويه به عليه الصلاة والسلام وبهم رضوان الله عليهم بعد ذلك.
ولقد وصفهم الله تعالى بصفتين هما على طرفي صفة الشدة، وصفة الرحمة مع بيان ما تقتضيه كل منهما حتى لا تنقض الواحدة الأخرى ، وحتى لا يستغرب أو ينكر اجتماعهما في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . أما صفة الشدة فقد اقتضاها التعامل مع الكفار الذين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويؤذون أصحابه معه ، وهو أذى يطول الحديث عنه، وقد استمر مدة مكثه عليه الصلاة والسلام بمكة المكرمة ، وكان سببا وراء هجرته منها إلى جانب ما في حكمة الله تعالى فيها. ومعلوم أن شدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكفار هي عبارة عن ردة فعل على شدة الكفار عليهم لإإيمانهم . والكفر في حد ذاته عبارة عن أذى فهو عدوان وظلم في حق الله تعالى طال الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام رضي الله عليهم . ولا يوجد عدوان أو ظلم يخلو من شدة وقسوة لهذا اقتضى الإيمان أن يواجه ظلم الكفر بما يناسب من شدة وقسوة .
ومعلوم أن الولاء والعداء في دين الإسلام إنما يكونان لله تعالى وفيه ، لهذا كانت شدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكفار لله سبحانه وتعالى وفيه ردا على جحود ألوهيته وربوبيته وإنكار نعمه بمنتهى الشدة . ولا بد من التنويه بأن الله تعالى في الذكر الحكيم قد قيّد الشدة مع الكفار بشرط الرد على بدئهم بالعدوان ، واستثنى منهم من لم يصدر عنهم اعتداء كما جاء في الآيتين الكريمتين الثامنة والتاسعة من سورة الممتحنة حيث قال جل شأنه : (( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون )) . وواضح من هاتين الآيتين الكريمتين أنه لا يمكن إنكارأو انتقاد شدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكفار الذين كانوا يقاتلونهم في الدين وقد أخرجوهم من ديارهم ، ولو أنهم لم يشتدوا عليهم لكان ذلك سبب وقوعهم في الظلم الذي حذرهم منه الله تعالى حين يوالونهم علما أن في موالاتهم دعما لهم وخيانة للدين . وواضح أيضا أن البر والقسط مع الذين لا يقاتلون المؤمنين ولا يخرجونهم من ديارهم، ولا يؤيدون من يفعل ذلك بهم يعتبر دليلا على أن الشدة في المؤمنين مع الكافرين مبررة ومشروعة لا يمكن الطعن فيها أو انتقادها ، وخلاصة القول في شدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكفار المحاربين لهم أنها تحسب لهم وليست عليهم ، وهي من المؤشرات الدالة على صدق إيمانهم .
أما صفة الرحمة التي وصف بها الله تعالى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أهم ما يطبع العلاقة بينهم ، وعنها تتفرع كل أنواع المعاملات الحسنة فيما بينهم كما يكون ذلك بين من تجمع بينهم أواصر الرحم ، لهذا وصفهم الله تعالى بالإخوة في الدين والإيمان تماما كما تربط أخوة الأرحام بين أفراد الأسرة الواحدة . ومن عجيب أمر الأخوة في الدين والإيمان أن الله تعالى قد رفع من قدرها وجعلها فوق أخوة الأرحام ، بل قد تتعطل هذه الأخيرة أو تنتفي وتسقط إذا انتفى عنها الدين والإيمان، بينما تدوم أخوة الدين والإيمان، ولا تنقض عروتها أبدا . ولا شك أن شيوع صفة الرحمة بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجلي آثارها في معاملات بعضهم البعض كانت تغري من لم يؤمن بالإيمان وذلك طمعا فيما كانوا فيه من صفاء المودة وصدق الأخوة .
وبعد صفتي شدة الصحابة الكرام على الكفار وصفة الرحمة فيما بينهم ، نوه بعبادتهم خصوصا عبادة الصلاة التي كانوا ينشدون من ورائه رضوان الله تعالى عليهم ، وكانت آثارها بادية على وجوههم المشرقة سواء كانت تلك الآثار علامات واضحة عليهم و ملحوظة أو كانت تدرك من خلال ما يفعل فيهم الخشوع لله تعالى من تواضع له، ومن حسن السمت، وصالح العمل ، وحسن التعامل …. وكل من يدل على الخير الذي خصهم به الله تعالى في العاجل والآجل .
ولقد مثل الله تعالى لهذه الصفة الحميدة فيهم بما سبق ذكره منها فيما أنزل على أهل الكتاب فيما لم يحرف من التوراة والإنجيل . أما التوراة فقد أشادت بحسن عبادتهم ، وأما الإنجيل فقد مثّل لها بتشبيه تمثيل منتزع الوجه من متعدد أمور حيث ذكر الله تعالى أنهم كزرع مر نموه بأحوال هي إخراج ساقه الذي هو أصل شطأه أو فروعه التي تؤازره آزرته فيستقوي بذلك ويستغلظ ويستقيم ، ويكون ذلك سببا في إعجاب الزراع بمنظره الجميل وطلعته البهية ، وبموفور محصوله ، وكذلك شأن صحابة رسوله الله صلى الله عليه وسلم في حسن سمتهم وفي تضامنهم وتآزرهم وتراحمهم ، وهي صفات وسجايا حميدة أنعم بها الله تعالى عليهم ليغيظ بهم الكفار. ولقد وعدهم سبحانه وتعالى لإيمانهم ولصالح أعمالهم بالمغفرة وكفى بها نعمة عظمى لمن شمله بها سبحانه وتعالى ثم بالأجر العظيم الذي هو سعادة أبدية في جنة الخلد التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو أولا تذكير المؤمنين بتنويه الله تعالى برسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم إذ ذكره باسمه الشريف وبصفة الرسولية العالمية التي جعلها الله تعالى طوق نجاة لعموم البشرية من الضياع في العاجل والآجل ، وذلك لما تتضمنه من توجيه إلى الاستقامة على صراطه المستقيم ، وثانيا تذكيرهم بصفات صحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ،وبما كانوا عليه من تقوى واستقامة وحسن تدين ، وحسن خلق وسمت وهو ما كان يغيظ الكفار.
وإذا كان الله تعالى قد جعل رسوله إسوة وقدوة للمؤمنين ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالاثتداء بصحابته الكرام وهم الذين تربوا على يديه الشريفتين، وعكست تربيتهم التدين الصحيح والاستقامة المثلى على الصراط المستقيم ، وبناء على هذا يجدر بكل مؤمن أن يقتدي بهم ، وأن يجعلهم نبراسا ينير طريقه في هذه الحياة كي يحوز مرتبتهم ومقامهم المحمود في الدار الآخرة . وكل من انحرف عن نهجهم القويم ، أوخالف سنتهم التي تلقوها صفية نقية مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يقيم بذلك على نفسه حجة مخالفتهم ، ولن يقبل منه عذر ولا ذريعة من قبيل ما يسمى على سبيل المثال مسايرة العصر وهو سيرعلى نهج الكفار المخالف لشرع الله تعالى ، وذلك من وقوع في المحظور مما نهى عنه الله تعالى . وكل مؤمن في هذا العصر لا يغيظ الكفار فعليه أن يراجع إيمانه ، وأن ينتبه إلى ما الذي يجعل الكفار يرضون عنه ويستحسنونه منه علما بأنهم لا يرضون إلا على من اتبع أهواءهم وخالف الاستقامة على شرع الله تعالى ، وذلك واضح جلي مما يعرفه المؤمنون اليوم ، وهو لا يحتاج إلى مزيد بيان .
اللهم إنا نسألك أن تبلغنا ما بلغت رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام رضوانك عليه أجمعين من رسوخ القدم في الإيمان وتشرب القلوب له على النحو الذي يرضيك وترضاه لنا ، ومن صدق تقواك ، ومن استقامة على صراطك المستقيم ، ومن حسن السمت الخالي من الرياء ، كما نسألك اللهم الإخلاص في العبادة .
اللهم ارحم من لا راحم له في هذا اليوم العظيم ، وعجل اللهم للمكروبين في أرض الإسراء والمعراج وفي كل مكان بفرج من عندك ، وانصرهم اللهم على من عاداهم وتول ّبما شئت من ظاهرعدوهم عليهم .
اللهم لك الحمد الكثير على ما أنعمت به علينا من رحمة الغيث التي عمتنا بعدما قنطنا، اللهم زدنا من نعمك وبارك لنا فيها ، واجعلها عونا لنا على طاعتك وحسن عبادتك ، واجعلنا من الشاكرين حقا باستعمالها في تقواك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .





Aucun commentaire