مشكل تلقين القيم للناشئة المتعلمة في منظومتنا التربوية

مشكل تلقين القيم للناشئة المتعلمة في منظومتنا التربوية
محمد شركي
لا خلاف بين أفراد مجتمعنا حول وجود مشكل في منظومتنا التربوية بخصوص موضوع تلقين القيم للناشئة المتعلمة في مختلف أسلاك التعليم من أوله إلى أعلاه، ولا تناطح في ذلك قرناء وجلعاء . ولا يوجد من ينكر ذلك أو يجادل فيه سوى الجهة الوصية على تنزيل المنظومة التربوية التي يغلب عليها منطق مقولة » العام زين » الذي دائما يغاث فيه الناس ويعصرون بلا سنين عجاف عندهم لأنهم إن أقروا بذلك شهدوا على أنفسهم بالفشل ، وهو ما لا يرغبون فيه ، لهذا لم يحصل أن تقدم وزير للتعلم وقد تناوب العديد منهم على وزارة التربية باستقالة معبرا بشجاعة أدبية عن فشله أو عجزه عن تدبيرها التدبيرالذي يحقق المسطر من الغايات والمرامي والأهداف وهي في غاية الأهمية، ويرجى منها ناتج بشري صالح مصلح تقر به العيون ويثلج الصدور.
ومع اختلاف زوايا النظر إلى هذه المنظومة المضطربة من حيث تلقين القيم وترسيخها في الناشئة المتعلمة ، فإن الإجماع حاصل بين الجميع آباء وأولياء أمور ومربون …. وغيرهم بخصوص وجود مشكل في تلقين القيم وترسخها في المتعلمين ، والذي يؤكد هذا الأمر هو مخرجات منظومتنا التربوية في معظم أسلاك التعليم مع استثناء خاص بالطفولة البريئة في التعليم الأولي وبعض سنوات التعليم الابتدائي ، أما ما عدا ذلك فالقيم معطلة أوشبه غائبة خصوصا لدى المتعلمين في الأسلاك الثلاثة الإعدادية والتأهيلية والعالية إلا من رحم الله ممن يتلقون القيم في أوساطهم الأسرية ، ونسبتهم جد ضئيلة حين تقارن بالسواد الأعظم المتنصل من القيم إلى حد الاستخفاف بها والسخرية منها نظرا لسيادة العبث وهيمنته في الفصول الدراسية .
وكثيرة هي القيم التي تتغياها نظريا منظومتنا التربية، وسنركز في هذا المقال تحديدا على الإسلامية منها نظرا لأهميتها ولخطورة غيابها على الناشئة المتعلمة وعلى عموم المجتمع الذي ينص دستوره على أن دينه الرسمي هو الإسلام . وعندما نقول القيم الإسلامية ،فنحن نقصد الجانب الخلقي على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل : » بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » ، وهو الذي نوه به رب العزة جل جلاله في قوله : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) وقد بينت عائشة أم المؤمنين ما نوه به الله تعالى في محكم التنزيل بقولها ردا على من سألها عنه : » كان خلقه القرآن » وهو ما يعني أن هذا القرآن هو المصدر الأول للقيم نظريا وأن الذي نزلها إجرائيا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعندما نقف عند القيم التي تقرها منظومتنا التربوية كغايات ومرام وأهدأف نجدها تنص على ترسيخ قيم مستقاة من الإسلام دينا، ومن العقيدة السنية الأشعرية مذهبا ، ومن الفقه المالكي تشريعا ، ومن التصوف السني الجنيدي سلوكا وتربية .ومن المفروض أنها مجتمعة تحقق منتهى السمو الأخلاقي الذي يجعل من الناشئة المتعلمة ملائكة يمشون في الأرض إلا أن واقع الحال أن أغلبهم لا يعكس سلوكهم شيئا مما تتبناه منظومتنا التربوية نظريا، لهذا سنركز في وصف نموذج سلوك المتعلمين الغالب في مؤسساتنا التعليمية على ما هو سلبي مع أن ذلك لا يعني إنكار وجود ما هو إيجابي، وبناء على هذا فإن الملحوظ والمعلوم من السلبي الغالب هو كالآتي :
1 ـ متعلمون عابثون مستخفون بالقيم الأخلاقية وهم يخجلون من أن يتخلقوا بها بل يباهون ويفاخرون بالتحلل منها كما يعبرون عن ذلك علانية دون خجل بألسنتهم وبفعالهم ، وهم بذلك مخالفون تماما لما يتلقونه من معارف غايتها تخليقهم ، وذلك لأنهم منشغلون عنها بالعبث الذي ينصرفون إليه انصرافا كليا . ويمكن التأكد من ذلك حين يرهف السمع إلى جموعهم خارج الفصول الدراسية أو في ساحات المؤسسات التربوية أو عند بواباتها وهم يتجاذبون أطراف الحديث عما يدور بينهم داخل الفصول الدراسية من أنواع العبث إما ببعضهم البعض أو بالمربين والمربيات، ولا تسمع منهم بتاتا أحاديث متعلقة بالمعارف أوبالتحصيل أو بالتنافس فيه … باستثناء حين يخرجون من حصص فروض المراقبة أو الاختبارات ، ويكون حديثهم عنها في الغالب عبارة مباهاة بالغش أوعبارة عن انتقادات ولوم موجه لمن يمتحنونهم ، وشكاة من صعوبتنا ، ولا تخلو حينئذ أحاديثهم من سباب وشتائم بأشد العبارات بذاءة وخدشا للحياء .
2 ـ متعلمون يجاهرون بالفحش بحيث لا ينادي غالبا بعضهم بعضا إلا بوصف أمهاتهم بالعهر حتى صارت عندهم عبارة : » يا ولد العاهر » بالصيغة العامية المقرفة لا تدل عندهم على الإهانة والاحتقار، بل تدل أحيانا على الإعجاب يتلقاها من يتلقاها منهم بفخر واعتزاز وارتياح ورضى باستثناء إذا ما استخدمت أثناء الشجار فيما بينهم .
3 ـ متعلمون ضارب فيهم التحرش أطنابه بحيث لا تسلم الإناث منه بل فيهن من تطرب له إما تصريحا أو تلميحا وتشجع عليه وتستطيبه ، وغالبا ما تعاين حالات الخلوة بين ذكورهم وإناثهم مثنى أو جماعات وهم في وضعيات مريبة .
4 ـ متعلمون بهندام لا يمت عند بعضهم بصلة إلى ما تنص عليه مذكرة وزارة تشترط له شروطا داخل الفضاءات التربوية والتي تعد مرجعا معتمدا فيما يوضع من قوانين داخل هذه الفضاءات . ولقد طال العهد بصياغة هذه المذكرة منذ عقود خلت ،ولا أظن أنها حُينت منذ ذلك الوقت. ومن أنواع الهندام الذي يغزو المؤسسات التربوية بالنسبة لشريحة من الإناث هندام غير محتشم ولا ساتر، وهو غير لائق داخل المؤسسات التربوية بموجب المذكرة الوزارية موضوع الهندام، فضلا عن كون الحجاب عند شريحة أخرى لا تراعى فيها الشروط المطلوبة شرعا بحيث يفي بالستر، فلا يكون ضيقا مجسما ولا رقيقا شفافا ولا مثيرا بألوانه وأشكاله…
أما بخصوص الهندام الخاص بالذكور ـ وأصل هذه الكلمة فارسي يعني المظهر عموما ـ فالملاحظ هو بعض أشكال وأنواع حلاقة شعورهم أو تصفيفها وهي أشكال مقتبسة عن بعض مشاهير الرياضيين من لاعبي كرة القدم أو غيرهم أومن نجوم السينما والغناء، وهي في الغالب غير منسجمة مع الواقع التربوي داخل المؤسسات التعليمية . والغريب أن المتعلمين الذكور يتعاملون بنوع من الاستخفاف مع الزي المغربي الهوياتي ـ ولا نقول التقليدي لأن هذا النعت قد يوحي بالحط من شأنه ومن شأن من يرتدونه ـ وذلك خلاف المتعلمين في بعض الأقطار العربية خصوصا دول الخليج الذين يرتدون أزياءهم الهوياتية بكل فخر وزهو واعتزاز.
5 ـ متعلمون تحول بين معظمهم وبين ارتياد المساجد يوم الجمعة لتلقي التوجيه الديني الأسبوعي الضروري والواجب شرعا جداول حصص مغيبة تماما لحدث الجمعة الديني، وهي لا تراعي سوى فترة الزوال التي تسمح بملء البطون ثم العودة مباشرة إلى المؤسسات التربوية، الشيء الذي يجعل التوجيه الديني في حكم الغائب .
6 ـ متعلمون معظمهم يستخف بالمواد الحاملة للقيم الأخلاقية خصوصا مادة التربية الإسلامية التي صاوا يتندرون بها وبمن يلقنونها لهم ، وهي عندهم مجرد عبء خصوصا الموجهون منهم إلى شعب علمية ، ولا تعني بالنسبة إليهم سوى كونها مادة غير مرغوب فيها وهي مفروضة عليهم يجتازون الامتحان فيها بدافع الرغبة في رفع معدلاتهم فقط . وليس حال الموجهين توجيها أدبيا بأفضل من حال الموجهين توجيها علميا بخصوص التعامل مع هذه المادة التي يفترض أن تترجم مكوناتها ما سطر من غايات ومرام وأهداف اعتقادا وتشريعا وتربية مما أشير إليه أعلاه إذ لا أثر للأشعري أو مالك أو الجنيد في وجدان هؤلاء المتعلمين ، وقد حل محلهم ، وسد مسدهم نجوم التفاهة بكل أشكالها وأنواعها وأساليبها في عالم الرياضة والفن وما شابه .
7 ـ متعلمون لديهم هوس التعلق الشديد بالهواتف الخلوية التي لا تفارقهم حتى وهم داخل الفصول الدراسية، علما بأن القانون الداخلي للمؤسسات التربوية يمنع ذلك لما فيه من تأثير سلبي على السير العادي للدراسة . والمشكل أن هذه الهواتف صارت تستعمل للعبث واللهو ،ولا تفتح إلا على المواد العابثة والساقطة كما أنها صارت تستخدم للإساءة سواء إلى بعضهم البعض أو الإساءة إلى أساتذتهم، وقد بلغ الأمر بهم حد نشر ما يلتقطونه من صور أو فيديوهات داخل الفصول الدراسية عبر المواقع العنكبوتية لغرض التشهير. كما أنها صارت وسيلة غش بامتياز تستخدم أثناء اجتياز اختبارات فروض المراقبة المستمرة أو الامتحانات الإشهادية . ومما زاد في الطين بلة كما يقال هو الاعتماد الكلي عليها خصوصا مع ظهور تقنية الذكاء الاصطناعي الذي سيؤدي الاعتماد عليه لا محالة إلى غباء بشري غير مسبوق وإلى كسل وخمول.
ومعلوم أن هذه السلوكات السلبية لا يمكن أن تعفى من المسؤولية عنها الأسر التي تخلى معظمها عن دورها التربوي ، وقد ألقت الحبل على الغارب ومع ذلك تنتقد بشدة المربين في المؤسسات التربوية وكأنهم يلقنونهم سوء التربية وليس مقررات حاملة للقيم الأخلاقية .
ولا بد من الإشارة إلى الوضع السائد في عالم اليوم وقد انفردت واستبدت به العولمة العاتية المتوحشة وإلى دورها في فرض قيمها المادية المتهتكة والمستهترة بغيرها من القيم الإنسانية الراشدة ،وقد صارت تسوق إلى الشعوب المغلوبة المقهورة تحت طائل الضغط والتهديد مفاهيمها وهي تضفي عليها إعلاميا مصداقية وشرعية متوهمتين. ومن تلك المفاهيم المسوقة إعلاميا نذكر على سبيل المثال لا الحصر مفهوم التسامح والانفتاح على الغيرذلك الغير الذي لا يتسامح ولا ينفتح ، بل يتقوقع داخل إيديولوجيا عرقية وعقدية في غاية التطرف والعنصرية، وهي مستقاة من مصادر أسطورية فاقدة للمصداقية حين تعرض على العقل والمنطق، وبهذا صارت المفاهيم مزدوجة الدلالة والكيل معا ، ومع ذلك قد انساق وراءها من انساقوا مكرهين أو راغبين دون الحذر من عواقبها الوخيمة التي تتهدد منظومة قيمنا التي من شأنها أن تعطي الأجيال الصالحة المصلحة والناجحة في حياتها عوض تلك التي تكون عبارة عن مسخ تقلد التقليد الأعمى غيرها متنكرة لهويته مستخفة بها راضية بدونية مخزية تفرضها عليها العولمة المتوحشة فرضا.
فمتى سيعرف الحل مشكل تلقين ناشئتنا المتعلمة قيما سامية تقرها منظومتنا التربوية نظريا لكن دون أثر إجرائي لها في واقع الحال ؟؟؟





Aucun commentaire