عندما تنحدر الأخلاق وتموت الضمائر

اسماعيل الحلوتي

في ظل الأزمة الخانقة التي يمر منها الإعلام المغربي في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الانتشار الواسع للتسجيل المصور الذي نشره الصحافي حميد المهداوي على موقع « بديل » الإلكتروني مساء يوم الخميس 20 نونبر 2025، المتعلق باجتماع لجنة أخلاقيات المهنة والقضايا التأديبية داخل اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة والنشر، للتداول في الشكاية المرفوعة ضده، مازالت ردود الفعل الغاضبة تتناسل والانتقادات الشديدة اللهجة الموجهة لأعضاء اللجنة تتواصل، بسبب ما صدر عنها من ممارسات وخروقات دنيئة وأساليب رديئة، لا تمس فقط بمصداقية المهنة وضوابطها القانونية والأخلاقية، بل تضر أيضا بهيئة الدفاع والتشكيك في استقلالية القرار القضائي.
فما حدث من تجاوزات خطيرة في اجتماع اللجنة إياها تحت عدسات الكاميرا، لن نجد له من عنوان مناسب أفضل من « انحدار الأخلاق وموت الضمائر »، إذ ليس هناك ما هو أبشع من أن تعم مجتمعنا مظاهر الظلم والقهر والإقصاء والتهميش والفساد بمختلف أشكاله، لاسيما عندما تسند المسؤوليات في مختلف القطاعات إلى غير مستحقيها من النزهاء القادرين على تحملها بحس وطني صادق وعن جدارة واستحقاق، وتمنح للانتهازيين الذين أوصلهم الجشع إلى قاع الانحطاط الأخلاقي وماتت ضمائرهم، حتى أصبحوا لا يعيرون اهتماما للقيم الأخلاقية ولا يستحيون من استصدار قرارات مجحفة وغير منصفة في حق من يخالفهم الرأي أو تزعجهم خرجاته الإعلامية، ولا يترددون لحظة في الحط من كرامة الإنسان، التي قال عنها الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز (سورة الإسراء، الآية 70): « ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا » .
ونظرا لما للأخلاق من بالغ الأهمية في حياة الأمم، باعتبارها قيمة إنسانية رفيعة توجه سلوك الفرد والمجتمع، وهي من أعظم ما يمكن أن تعتز به وتتميز به عن غيرها، لكونها تعكس ثقافة الأمة وحضارتها، حيث أنه كلما علت أخلاق أمة ارتفع شأنها وأربكت حسابات خصومها وأعدائها. وحين يبتعد المجتمع عن القيم الإنسانية ويتصف أبناؤه برداءة السلوك وسوء الخلق، تكثر الفضائح ويصبح المجتمع يعاني من أزمة أخلاقية، مما يؤدي في الأخير إلى انهياره، لذلك قال الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي:
« إنما الأمم الأخلاق ما بقيت،،، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا »
فأمام ما تعرضت إليه الصحافة ببلادنا من مذبحة فظيعة داخل تلك اللجنة الغريبة الأطوار، التي يفترض فيها الحفاظ على القيم الوطنية وحماية الأخلاق بدل الاعتداء عليها، سارعت عديد الفعاليات المدنية والسياسية والحقوقية وغيرها إلى استنكار تلك المعطيات الخطيرة الواردة في التسريبات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، لما تتضمنه من كلمات نابية تحط من الكرامة الإنسانية للأشخاص والمؤسسات، وتمس روح التنظيم الذاتي للمهنة ونزاهة القطاع الإعلامي واستقلاليته، بالإضافة إلى محاولة توريط مؤسسة القضاء في استهداف ملفات بعض الصحافيين والمقاولات، رافضة الاستمرار في الاستهتار بالمسؤولية وسمعة التنظيم الذاتي للمهنة، الذي يعتبر من أبرز المكاسب التاريخية لكفاح نساء ورجال « السلطة الرابعة »، والشطط في اتخاذ القرارات والتضييق على حرية الصحافة والصحافيين…
وأمام هول هذه الفضيحة الكبرى، لم يتوقف الأمر عند حدود الشجب والاستنكار والتنديد بمحتويات ذلك التسجيل الصادم، الذي اعتبرته « الجامعة الوطنية للصحافة » في بلاغها الصادر يوم السبت 22 نونبر 2025 « سقطة أخلاقية ومؤسساتية خطيرة غير مقبولة، ومسيئة لصورة الإعلام الوطني داخليا وخارجيا »، مؤكدة أن ما حدث من ممارسات شنيعة، يعد نتيجة طبيعية لمسار خاطئ، انطلق منذ التمديد غير المبرر، مرورا بتعيين لجنة مؤقتة خارج آليات الديمقراطية وانتهاء ببلوغ هذا الانحدار الأخلاقي والمؤسساتي، ولاسيما أنه سبق لها التنبيه في عدة مناسبات إلى الاختلالات المتراكمة داخل اللجنة المؤقتة، والتحذير من أن الانحراف عن المسار الديمقراطي، الذي يمر عبر انتخابات مهنية حرة ونزيهة من شأنه أن يفرز المزيد من الارتباك وفقدان الثقة والشرعية والمزيد من القرارات المرتجلة والإضرار بصورة الصحافة الوطنية…
بل بلغ الأمر إلى حد دخول عدة جمعيات من مختلف الجهات على الخط رافضة السكوت عما آل إليه هذا القطاع الحساس من انحطاط أخلاقي، وهو الذي يفترض فيه أن يكون نموذجا في الحكامة الجيدة، ومنددة بتجاوزات اللجنة المؤقتة والمنتهية الصلاحية، خاصة أنها فشلت في إنجاز مهامها القانونية وألحقت أضرارا بليغة بالصحافة الحرة والمستقلة، داعية إلى جانب عدد من النواب البرلمانيين إلى ضرورة التعجيل بفتح تحقيق دقيق حول الوقائع التي كشف عنها التسجيل المسرب، إنهاء مهام « لجنة الأخلاقيات »، وإصلاح قانون المجلس الوطني للصحافة وضمان استقلالية الصحافة وحماية الأخلاقيات المهنية.
إننا إذ نعلن عن تضامننا اللامشروط مع حميد المهداوي وكل المتضررين من الممارسات الدنيئة ل »لجنة الأخلاقيات » السالفة الذكر، والانتهاكات الأخلاقية والديمقراطية التي أصابت مؤسساتنا الوطنية، فلا يفوتنا التذكير بأن الصحافة ليست مجرد مهنة مثل باقي المهن، بل هي إضافة إلى كونها « مهنة المتاعب » رسالة إنسانية نبيلة وسلطة ذات بعد قيمي وازن، وأن الديمقراطية الحقيقية تستمد قوتها من صحافة ذات رسالة تنويرية وأخلاقية. وعليه بات لزاما العمل بكامل الجدية والوضوح والسرعة اللازمة على إخراج القانون المنظم للمجلس الوطني للصحافة من أجل تجاوز حالة الفراغ القائم، حتى يمكن للمؤسسة المعنية القيام بأدوارها الدستورية والقانونية والأخلاقية، وإنهاء هذا المسلسل من العبث الذي يستفز المشاعر.





Aucun commentaire