الإرث الحقيقي، أو ماذا ينبغي أن نُورث أبنائنا؟
منذ الأزل، فكر الإنسان في الخلود. وحين وعى بفكرة موته الحتمي، اخترع أشكالا رمزية للخلود: أولها التوالد، ثم امتلاك أشياء تنقل لذريته بعد موته، وهذا ما يسميه فرويد « النزعة اللاواعية نحو الخلود ». وقد يتجلى ذلك أيضا من خلال بناء المجد الشخصي، أو إنشاء المشاريع، أو التأليف، أو الاختراع، أو غرس شجرة، أو حفر بئر، أو بناء مسجد…
وحلم الخلود هذا لم يقتصر فقط على الأفراد العاديين، بل تجلى كذلك في فكر الأنبياء الذين لم يبلغوا رسالاتهم لأبناء جيلهم فقط، بل كانوا يفكرون في أجيال ستأتي بعد قرون. كما تجلى في فكر كبار الفلاسفة الذين سعوا إلى الخلود من خلال أفكارهم ونظرياتهم. كما نراه عند الملوك الذين تمنوا لو خلد عرشهم إلى الأبد… ويمكن القول إن في فطرة الإنسان ميلا نحو الامتداد الزمني، نحو الخلود من خلال الأثر…
غير أن التوريث المادي من أموال وعقارات ومنقولات للذرية يبقى هو الشكل الغالب من أشكال حب الخلود اللاواعي، إذ يبذل الإنسان جهدا كبيرا لتأمين الثروة، ليس فقط من أجل راحته قيد حياته، بل أيضًا ليورثها لذريته… وقد يتم تجميع هذه الثروة بطرق معقولة ونزيهة، أو قد تكتسب بطرق غير شرعية كالنصب أو الاحتيال أو السرقة، أو حتى عبر التقشف والشح الشديد، حيث شهدنا من عاش الفقر المدقع ليترك أموالا طائلة لورثته، حتى إن بعض الورثة قد يصل بهم الحال إلى تمني موت المورث لينعموا بخيرات هم محرومين منها قيد حياته…
لكن، ومن وجهة نظر خاصة، فرغم أهمية هذا الإرث المادي وشرعيته، فإنه لا يكفي. فهناك أنواع أعمق وأبقى من الموروثات تهمل غالبا، وتتمثل أساسا في: إرث القيم، وإرث الأنظمة/الخدمات، ثم إرث الحرية.
فما جدوى التركة إن لم يرب الابن على قيم تمكنه من التصرف فيها بحكمة؟ ومعلوم أن أًرسخ القيم هي تلك التي يتشبع بها الابن من خلال الممارسة اليومية في كنف أسرته. فالابن يكون صادقا إن تربى في كنف والدين صادقين، وكريما إن تربى في الكرم، وأمينا إن عاش الأمانة، وشجاعا إن رأى الشجاعة… فهل ننتظر من الابن أن ينصر مظلوما إن لم ير والديه يشاركان في فعل من هذا النوع؟ وهل سيقدم على المطالبة بحقوقه أو الدفاع عنها إذا نشأ في بيت يسوده الذل والخنوع؟
ما جدوى التركة إن لم يرث الابن منظومة تعليمية جيدة؟ ومعلوم أن التعليم الجيد هو مفتاح كل شيء: القيم، والتنمية، والحكمة، وبناء المستقبل… فما قيمة ثروة في يد جاهل؟ وكم من موروثات ضاعت لأنها سلمت لمن لا يقدرها؟ وهنا يبرز السؤال المحرج: ماذا فعلت أنت لتورث التعليم الجيد للأجيال القادمة؟ هل قدت يوما مبادرة للدافع عن المدرسة الجيدة، أو شاركت في واحدة؟ هل عبرت عن آراء للنهوض بالمدرسة، ودافعت عنها؟ وأنت المنتمي لإحدى قطاعي التعليم، هل تراقب تصرفاتك حفاظا على قيمة المدرسة؟ هل تطالب بضرورة صون صورتها وضرورة النهوض بها؟ أم تكتفي بنميمة المقاهي؟ أو أصبحت مسترزقا باسمها؟ تسترزق بكل الوسائل، وتظن أنك فاعل خيرا؟
ما جدوى التركة إن لم يرث الابن منظومة صحية جيدة؟ وهل مال قارون ينفعه إن مرض ولم يجد طبيبا نزيها ولا مشفى آمنا؟ تأمل كيف يسعى الناس للهجرة إلى دول توفر رعاية صحية متقدمة، تأمل عسى أن تفهم… ثم اطرح على نفسك الأسئلة نفسها: ماذا قدمت لتكون مثل هذه المنظومة ممكنة في بلدك؟ وماذا عنك إن كنت منتميا لقطاع الصحة؟
ما جدوى الثروة إن وجدت في بلد لا عدل فيه؟ وهل ثروتك وأنت آمنين إذا كانت منظومة القضاء معلولة؟ وما دورك أنت في توفير منظومة قضائية عادلة وفعالة؟ وارتباطا بالعدل، ماذا عن الحرية؟ أُم الإرث كله، حرية الفكر، وحرية التعبير، وحرية أن نحيا دون خوف… إن الحديث عن الحرية شائك، يستوجب استحضار ما يقع داخليا، ولا يكتمل دون الانتباه إلى التهديدات الخارجية التي تُحاك في الخفاء والعلن. إنّ مشاريع تفكيك الدول، أو السيطرة عليها ليست خيالًا روائيًا، بل واقعًا يتكشّف يوماً بعد يوم، وتتصدره حركات لا تسعى فقط إلى السيطرة على الأرض، بل على وعي الإنسان وحريته وقراره… وحين تسود هذه المشاريع، لن يكون الفقراء وحدهم من يفقدون حريتهم، بل الجميع، حتى أولئك الذين ظنوا أن ثرواتهم تحميهم. إن الحرية إرث مشترك يستوجب اليقظة، ولا يمكن الدفاع عنه إلا بالوعي، والتضامن، والنضال من أجل كرامة الإنسان، كل إنسان… إذن ماذا عن واجبك أنت؟
إن الإرث الحقيقي لا يوجد في الحسابات البنكية، ولا في الضيعات، ولا في العقارات… بل في نوعية المجتمع الذي نساعد في بنائه من أجل الأجيال القادمة. إن السكوت والاستسلام، قد يفي بالغرض لحظيا وقد يوفر لصاحبه ثروة… لكن، ألا نخاطر بالحاضر والمستقبل إن نحن فرطنا في المدرسة، والمستشفى، والعدل، وفي الحرية أساسا؟ إن كنا نطمح لترك شيءٍ خالد حقًا، ألا يجب علينا أن نناضل – لا فقط من أجل مصالحنا الفردية، بل من أجل مستقبل مشترك؟ ألا يجب أن نعمل على حماية وتجويد المدرسة العمومية، حتى تحظى الأجيال المقبلة بحقها في التعلّم والنمو؟ ألا يجب أن نطالب بنظام صحي عمومي يحفظ كرامة المواطن – فقيرا كان أم غنيا، حتى لا يتم ابتزازه واستغلاله؟ ألا يجب علينا أن نبني قضاء مستقلا؟ ألا يجب، وقبل كل شيء، أن ندافع عن الحرية ونسعى إلى توريثها للأجيال القادمة؟
—
محمد طلبي،
وجدة، المغرب.
Aucun commentaire