يا معشرعلماء المجلس العلمي الأعلى أليس في قرار توحيدكم خطب الجمعة مصادرة لمواهب الخطباء وقد تحوّلوا إلى مجرد قراء يتلون فوق المنابر ما يرد عليهم من خطب ؟

يا معشرعلماء المجلس العلمي الأعلى أليس في قرار توحيدكم خطب الجمعة مصادرة لمواهب الخطباء وقد تحوّلوا إلى مجرد قراء يتلون فوق المنابر ما يرد عليهم من خطب ؟
محمد شركي
صدق من قال إن عين الصواب أن يُوجَّه الخطاب بخصوص ما طرأ على خطب الجمع في بلادنا إلى المسؤولين المباشرين عنها، وهم السادة العلماء أعضاء المجلس العلمي الأعلى صُنَّاع خطة تسديد التبليغ عوض أن يُوجَّه إلى وزير الشأن الديني الذي صرح في أكثر من مناسبة أن هذه الخطة، وما ترتب عنها من توحيد لخطب الجمعة هي من بنات أفكارهم .
وأول ما يقال لهؤلاء السادة العلماء هوتذكيرهم بجسامة مسؤولية وراثة النبوة ، وهم رواد النصح للأمة على اختلاف أرصدة أفرادها المعرفية ، وأنهم المصدروالمرجع في أمور دينها ، لا يجادل في ذلك إلا جاحد أو منكر ، وأنهم دعاة النصح والتناصح اللذين يلزمانهم قبل أن يلزمان من سواهم من عامة الناس.
ولما كانت حجة علماء الدين عندنا المقولة الشهيرة المأثورة عن الإمام مالك رحمه الله : » كلٌّ يُؤخذ من كلامه ويُردّ إلا صاحب هذا القبر » في إشارة منه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها تلزمكم معشر علماء المجلس العلمي الأعلى، خصوصا وأن قرارهم بتوحيد خطبة الجمعة، وتعميمها على الصعيد الوطني، وتكليف الخطباء بتلاوتها هو اجتهاد منكم، والاجتهاد كما يحالفه التوفيق ، قد لا يسلم من عثرات .
والسؤال الموجه إلى هؤلاء السادة العلماء بخصوص قرارهم هو : هل فكرتهم في مآل الخطابة ، و في مصير الخطباء وهما أمران متلازمان على المدى البعيد ؟
والجواب عن هذا السؤال إذا ما رضيتم معشر السادة الأجلاء بسماع كلمة حق ممن هو دونكم علما ومعرفة أن مآل الخطابة ، ومصير الخطباء سيكونان أسوأ مما يتصورعلى المدى البعيد ، خصوصا وأن منكم من كان ينكرعلى بعض الخطباء ارتجال خطبهم فوق المنابر غيرة عليها ، ويلزمهم بالجد والمكابدة في إعدادها ، وتخصيص الوقت المعتبر لإبداعها ، والإجادة اللازمة في تحريرها ، وكذا الإجادة في إلقائها على الأسماع . وهذا يعني أن الخطابة يقتضي أول ما تقتضيها الموهبة المصقولة ،لأنها فن من فنون الكلام البليغ شأنها في ذلك شأن فنون القول من شعر ، ونثر ، وأنها لا تسلس قيادها إلا لموهوبين متمرسين ، لهم علو كعب فيها ، يعانون ويكابدون من أجل بلوغ الغاية فيها تماما كما يعاني ويكابد المبدعون في فن الشعر على سبيل المثال لا الحصر .
أليس الشاعر الفرزدق، وهو من هو شاعرية ، وغزارة إبداع قد أثر عنه أنه قال : » إن خلع ضرس يكون أهون عليَّ من قرض بيت شعر أحيانا » ؟ ولن يكون خطيب الجمعة حقا أقل معاناة من هذا الشاعر، بل ربما كانت معاناته مع الخطابة أشد من معاناة الشاعر، لأن الشعرتتقاسم الغواية والرشد، بينما الخطابة الدينية تحديدا تتمحض للرشد فقط ، تقديسا لكلام الله عز وجل، ولحديث رسوله صلى الله عليه وسلم .
فإذا ما تحول مجموع خطباء الوطن بموجب خطتكم لتسديد التبليغ إلى مجرد قراء يتلون على الناس ما تنشئونه أنتم أو ما تقرون غيركم على إنشائه ممن تختارونهم من خطباء أو غيرهم ، فما هو يا ترى مصير المواهب الخطابية لهؤلاء القراء على المدى البعيد حين يطول عهدهم بممارسة الإبداع الخطابي ، وبالمعاناة من أجل إدراك الشأو فيه ؟
إنكم تعلمون جيدا معشر السادة العلماء ، أنه كما للشعر العربي عيون يُتباهى بها ، فإن للخطابة العربية عيونها أيضا ، وعلى رأسها خطابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقد أوتي مجامع الكلم ، ومن بعده خطابة خلفائه الراشدين المهدين رضوان الله تعالى عليهم ، وخطبهم شهرة بمنزلة المعلقات في الشعر العربي شهرةً، ثم خطابة ممن جاء بعدهم من خطباء مفلقين من السلف الصالح ، ثم من كان على شاكلتهم من المبدعين في هذا الفن الذي لا يسلس القياد إلا لمن يعلو كعبه فيه.
وإذا كان المتقدمون ينصحون المبتدئين في مجال فن الشعر بالإكثار من حفظ ورواية عيون أشعار الفحول كي تنمو ملكاتهم الشعرية ، لتنقلهم من التطبع إلى الطبع ، فإن من يمارسون فن الخطابة لا مندوحة لهم عما يلزم الممارسين لفن الشعر كي ترسخ أقدامهم فيها ، وذلك ما لا يتأتى إلا بمواهب تصقلها الممارسة .
وإذا كان الشعراء مقلون في إبداعهم ،لا تصدر لهم قصائد أو دواوين إلا بعد مرور وقت طويل ، فإن المبدعين في فن الخطباء الدينية ملزمون بالإبداع كل أسبوع ، وكلما زاد وقت الإبداع، زاد الجهد، والسهر، والمعاناة ، وصقلت المواهب الخطابية .
ألم تكن لكم يا معشر العلماء الأجلاء مندوحة عن التضييق على مواهب الخطباء بالمضي قدما فيما كان عليه الأمر من قبل، تحددون لهم مواضيع الخطب ، وترخون العنان لمواهبهم ، فتكون النتيجة كما هائلا من الخطب في الموضوع الواحد ، عوضا عن خطبة واحدة ليست من إنشائهم يقرؤونها على الناس دون تفاعل معها ، وفيهم من هم أقدرعلى الإتيان بما هو أبدع منها ؟؟؟
فيا معشر العلماء الأجلاء لئن صح أنكم أنتم من قررتم هذا القرار المجهز على فن الخطابة والمجحف في حقها ، وفي حق الخطباء ، فقد ضيّقتم واسعا أنتم أولى بالحرص على أن يظل واسعا ،لأن تضييقه وأد للخطابة ، وإخراس لألسنة الخطباء.
وأخيرا نقول لكم بلسان حال الخطباء عندنا وقد شددتم على ألسنتهم بما قررتم ما قاله الشاعر الجاهلي عبد يغوث الحارثي الذي وقع في أسر قوم ، فشدوا لسانه بِنِسْعة ( أي بسير أو بخيط من جلد ) :
أقول وقد شدُّوا لساني بنسْعة أمعشر تَيْم أطلقوا عن لسانيا
Aucun commentaire