متلازمة بؤس المستوطن
المصطفى حميمو
تتجلى متلازمة بؤس المستوطن في قسوته الوحشية. فالتاريخ يُظهر أن الاستعمار كان دائمًا مصحوبًا بعنف لا نظير له. لكن لماذا يبدو المستوطن بهذه القسوة، رغم شعوره بالتفوق والسيطرة؟ ولماذا يصبح أكثر شراسة كلما شعر بأي تهديد لسلطته؟ الأمر لا يقتصر على كونه مجرد استراتيجية للهيمنة، بل هو تعبير عن معاناة نفسية وجودية عميقة. إنه قلق داخلي شديد الإيلام يتحول إلى عنف بلا حدود.
المستوطن يضطهد السكان الأصليين لأنه يعاني من أزمة هوية حادة. في الجزائر سابقًا، في جنوب إفريقيا، في الأمريكيتين، وكما هو الحال اليوم في فلسطين، يشعر المستوطن دائمًا بالغربة وبأنه لا ينتمي إلى الأرض التي يحتلها. مهما حاول، ومهما بالغ في العناية بها، فإن هذه الحقيقة المُرّة تطارده بلا هوادة. إنه يدرك تمامًا أنه غريب عنها، وليس ابنها الشرعي، حتى لو وُلد فيها وأقام فيها أجداده لأجيال.
ليس على السكان الأصليين تذكيره بذلك صراحةً، فمجرد وجودهم وحده يكفيه ليواجه هذه الحقيقة الخانقة. وهذا ما يولد في داخله جرحًا نفسيًا عميقًا مصحوبًا بكراهية جارفة لكل ما يذكره بهذا الواقع المر. فهي ليست مجرد عداوة ناتجة عن صراع مصالح عابر، بل هي كراهية وجودية. فالمستوطن يشعر بأنه مرفوض إلى الأبد، ليس فقط من قبل السكان الأصليين، بل من قِبَل الأرض نفسها، ومن تاريخها، وحتى من أعماق ضميره هو بنفسه، لأنه يدرك ظلم وجوده فيها. فهو يعرف في قرارة نفسه أنه لن يقبل أبدًا بأن يكون في مكان ضحاياه. ويعلم أنهم طال الزمن أو قصر سيطردونه يوما منها بأي ثمن ومنه الموت من أجل أن تعيش البقية حرة.
لهذا، لا يكتفي المستوطن بالاستيلاء على الأرض، بل يسعى إلى محو كل ما يربطها بماضيها وسكانها الأصليين. لا يريد فقط امتلاك المكان، بل يسعى إلى طمس أي أثر لمن سبقه. يريد إعادة تشكيل كل شيء حتى لا يبقى ما يُذكره بأنه دخيل. لذا، فإن محو الهويات الأصلية، والمجازر، والدعاية، والتسلح المفرط، وأجهزة المخابرات الجد المتطورة ليست مجرد أدوات غير عادية للسيطرة، بل هي أيضًا آليات دفاعية ضد قلق وجودي داخلي يأكله من الداخل.
إسرائيل: التجسيد الصارخ لمتلازمة بؤس المستوطن
اليوم، تمثل إسرائيل التجسيد الأوضح لذلك البؤس الملازم لكل مستوطن. عندما أدركت فرنسا بعد 130 عامًا من الاستعمار أن بقاءها في الجزائر مستحيل، عاد المستوطنون « الأقدام السوداء » إلى وطنهم الأصلي. أما المستوطن الإسرائيلي، فيصر على إدامة وهم الفخ الوجودي الذي لا مخرج منه. يعلم جيدا أنه كمستوطن لن يندمج أبدًا، لا في فلسطين المحتلة، ولا في المنطقة بأسرها، بل حيثما ذهب هنالك مع « التطبيع »، يدرك أنه مرفوض من الجميع، وهذا وضع لم يسبق أن عرفه أي شعب آخر. والمستوطن الإسرائيلي يتفنن في زرع تلك الكراهية ضده في المنطقة والتي تخنقه.
ومع ذلك، يُقنع نفسه بأنه إذا غادر هذه الأرض التي ترفضه بكل قوة، فسيصبح بلا وطن. وهو أمر غير صحيح على الإطلاق. فأينما هاجر، سيجد بلدًا يستقبله بحفاوة، ليبدأ حياة طبيعية كأي إنسان آخر، لو تخلى فقط عن وهم « الأرض الموعودة » وأسطورة « شعب الله المختار ».
لكنه منذ طفولته، لا يزال يُحاصر في بيئة دينية تزرع فيه هذا الوهم، ليكتشف لاحقًا أن هذه « الأرض الموعودة » ترفضه بعنف. هذه الحالة النفسية تدفعه إلى الشعور بأنه محاصر دائمًا، وإلى الهوس بالحماية المطلقة ضد فناء يراه على الدوام وشيكًا. فالتسلح المفرط، والخوف الوجودي الذي لا نظير له في كل العالم، ليسا إلا تعبيرًا عن معاناة نفسية عميقة لا يمكن لأي قوة عسكرية، مهما بلغت، أن تهدئها.
المفارقة بين الفلسطيني وعدوه المستوطن
التناقض بين المستوطن وضحيته الفلسطينية صارخ. رغم الاحتلال والتشريد، يعيش الفلسطيني بثقة راسخة في أنه في وطنه. هذه القناعة تمنحه قوة لا تتزعزع وقدرة مذهلة على الصمود. كل شهيد كل أسير كل ولادة فلسطينية، كل جيل جديد، كل موسم يمر، هو انتصار بحد ذاته. نضاله، رغم آلامه، هو تأكيد للحياة وليس أبدا للموت أو الفناء. وهو يتطلع إلى المستقبل بأمل عظيم، لأنه يعلم أن الزمن والتاريخ في صالحه.
أما الإسرائيلي، فيعيش في حالة حصار نفسي دائم، حتى وهو في قمة تفوقه العسكري. حياته تشبه راكبًا محبوسًا في طائرة معطلة تهوي إلى الأرض بسرعة جنونية، ويدرك أن اصطدامها بها قادم لا محالة. فحتى حين تراه يستمتع بشواطئ البحر المتوسط الفلسطيني وبمرافقه الترفيهية، فهناك صوت داخلي يهمس له في أدنه: « مع الأسف، هذه الأرض ليست لك! ».
العلاج البسيط لمتلازمة بؤس المستوطن المعقدة
في الواقع الحل واضح وبسيط، لكنه يتطلب شجاعة التفكير فيه. معاناة المستوطن، خصوصًا الإسرائيلي، هي أنه يفرض على نفسه حياة مأساوية غير مجبر ماديا على تحملها. فهو كباقي البشر، لا يعيش إلا مرة واحدة. ويمكنه أن يختار مصيرًا مختلفًا تماما. العالم واسع، مليء بالفرص لمن يريد العيش بسلام. فأي مغترب في فرنسا أو أمريكا مثلا أو في أي مكان آخر يستطيع أن يبني حياة طبيعية دون الحاجة إلى قهر أو إلغاء الآخرين. فلماذا يصر الإسرائيلي على أن يحكم على نفسه بحياة حرب وخوف دائم، بينما يمكنه العيش كغيره من الشعوب، في أي مكان آخر؟ لا مبرر لذلك على الإطلاق سوى الإيديولوجية الصهيونية الخانقة التي لا لزوم لها.
لكن التاريخ يثبت أن المستوطن نادرًا ما يتخلى عن بؤسه بنفسه، حتى وإن كان ذلك ممكنًا. ففي الجزائر مثلا، لم يرحل المستوطنون إلا بعد حرب دموية. في جنوب إفريقيا، استغرق إنهاء الفصل العنصري عقودًا من المقاومة والضغوط الدولية، وحتى اليوم يعيش البيض الباقون هنالك في مجمعات محصنة، وكأنهم سجناء في محابس شديدة الحراسة.
لو تم التعريف بهذه المتلازمة، واعتُرف بمعاناة المستوطن على حقيقتها، فقد يظهر حل مختلف. هذه المتلازمة ليست قدرًا محتوماً، بل يمكن فهمها، تشخيصها، وعلاجها كمرض نفسي. الخطوة الأولى هي تسميتها كما ينبغي لها وبكل وضوح، وإبرازها دون مواربة.
وإلا فطالما يعتقد الإسرائيلي أن مصدر ألم بؤسه هو الفلسطينيون، سيظل غارقًا في دوامة العنف. لكن إن أدرك أن معاناته نابعة من سجنه الأيديولوجي، فقد يرى طريقًا للخلاص.
فالسلام في فلسطين لن يتحقق بشكل نهائي عبر المفاوضات أو الاتفاقات الشكلية. فالإسرائيلي يدرك أن حل الدولتين ليس سوى مرحلة مؤقتة تذوب فيها إسرائيل كذوبان ثلوج الشتاء تحت دفء أشعة شمس فصل الربيع كي تنتهي لا محالة بعودة فلسطين التاريخية كاملة بيد أصحابها الشرعيين وكما كانت من النهر إلى البحر. الحل الحقيقي يكمن إذا في وعي المستوطن بحقيقة واقعه المرضي، وتحرره من أسطورة « الأرض الموعودة » وأوهام « الشعب المختار »، ليختار طواعية العيش في سلام، كما يفعل سائر البشر، في أي مكان يريده من العالم.
الصراع ليس إذا عسكريًا أو سياسيًا فحسب، بل هو صراع ضد الوهم الذي يأسر المستوطن. مفتاح السلام لا يكمن فقط في موازين القوى، بل في إدراك أن هذه الحرب ليست مجرد صراع ضد شعب آخر مظلوم، بل هي حرب يخوضها الإسرائيلي قبل كل شيء ضد نفسه.
وما دام أسيرًا لأوهامه، سيظل محاصرًا في كابوسه البئيس والمؤلم من دون مبرر وجيه يستحق ذلك. لكن إن امتلك الشجاعة لينظر إلى الحقيقة كما هي، فسيدرك أنه لا يعيش إلا مرة واحدة، وأنه ليس مضطرًا لقضاء حياته في خوف دائم من الزوال وفي متاعب تدمير نفسي لا مبرر له. يوم تنضج هذه القناعة عند المستوطن الإسرائيلي، قد تعرف فلسطين والعالم أخيرًا سلامًا حقيقيًا. وما الحلم إلا خطوة نحو الواقع القادم، طال الزمان أو قصر.
Aucun commentaire