حتى يصان الكلام عن الغيبة والبهتان والنميمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي

حتى يصان الكلام عن الغيبة والبهتان والنميمة
لا أريد أن يُفهم من هذا المقال أني أرغب في انتحال صفة واعظ أو مرشد ديني لأنني لست أهلا لذلك حتى وإن حاولت، وإنما قصدي لفتُ الانتباه إلى بعض الممارسات والتصرفات التي تدفع بنا إلى الغيبة التي قد تصل إلى حد البهتان أحيانا وربما إلى النميمة أحيانا أخرى، مع محاولة الوقوف على بعض الأسباب واستقراء نتائجها من الواقع اليومي دون الادعاء بأن ذلك يسد مسد دراسة علمية تحيط بالموضوع في مختلف تفرعاته.
لتعريف الغيبة والبهتان لن أجد خيرا من تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما حيث قال: « أَتَدْرُونَ ما الغِيبَةُ؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ، قيلَ أفَرَأَيْتَ إنْ كانَ في أخِي ما أقُولُ؟ قالَ: إنْ كانَ فيه ما تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيه فقَدْ بَهَتَّه » أمَّا النميمة فتُعرَّف عند أهل العلم على أنها نقل الكلام بين الناس؛ بقصد الإفساد بينهم.
بالنظر إلى التعاريف أعلاه يتبين أن كُلًّا من الغيبة والبهتان والنميمة عبارة عن رسائل، ومن ثم فإن تمريرها، يحتاج إلى مرسِل ومرسَل إليه، وإلى وسيلة لإرسالها، فأما المرسِل والمرسَل إليه فيتمثلان في وجود شخصين على الأقل أحدهما يرسِل والآخر أو الآخرين يستقبلون أو العكس، وأما الوسيلة فهي الكلام الذي يمكن أن يكون عن طريق النطق أو الكتابة أو الصورة أو الإيحاء أو غيرها من وسائل التعبير المختلفة.
وإذا كان من المُسَلَّم به أن استعمال الكلام بمختلف تجلياته من أساسيات التواصل والتعارف بين الناس، مصداقا لقوله تعالى: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا » الآية 13 من سورة الحجرات، فإن الإسلام يَشترط في استعماله قول الخير، شأنه شأن كل وسيلة مُتاحة، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت » لكن المشكل يكمن في عدم الموازنة بين الكلام والصمت، وتغليب أحدهما على الآخر أو استعمال أحدهما مكان الآخر حيث يتكلم الفرد في الوقت الذي يتعين عليه أن يصمت أو العكس. وبما أن الكَفَّة تميل لصالح الكلام في الغالب، فلا بد من قواعد لضبطه، ولعل من بين هذه القواعد التي يتعين على كل مسلم الالتزام بها، قاعدة التبين الواردة في الآية 6 من سورة الحجرات: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » وإلا دخل ضمن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع ». وفي نفس السياق يحضرني « اختبار الثلاث لسقراط » المتكون من اختبار الصحة واختبار الجودة ثم اختبار المنفعة، والذي يمكن تلخيصه في الآتي: إذا أراد أحد أن يُحدِّث شخصا بكلام ما، فعليه أن يتأكد من صحته، ومن كون الخبر جيدا أو سارا للشخص المعني، ومن كونه نافعا له.
إذا سلمنا بما سبق، يبقى السؤال حول أسباب لجوء الناس إلى الغيبة والبهتان والنميمة مطروحا بحدة، ولا شك أن الإجابة عليه ليست باليسيرة، ومع ذلك سأحاول أن أتكهن ببعضها وأذكر منها على سبيل المثال، عدم الإلمام بالدين بالشكل الذي يلتزم معه المتدين بالممارسة العملية له حتى لا أتجرأ وأحكم على الناس بضعف إيمانهم، وإلا كيف نفسر كثرة المصلين في نفس الوقت الذي يقومون فيه بممارسات غير مُرحَّب بها في الدين الإسلامي، مع العلم أن الله سبحانه وتعالى يقول » إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ » الآية 45 من سورة العنكبوت. كما أن العوامل الثقافية يمكن أن تكون سببا آخر في الانغماس في هذه الثلاثية الشيطانية، بحيث لا يمكن أن نتصور لقاء شخصين أو أكثر دون كلام، وإذا علمنا ضعف المجال المشترك الذي يمكن أن يتناوله الحديث باستثناء التحية والسؤال عن الأحوال الشخصية ثم الطقس، فإن المجال يبقى مُشرعا أمام الغيبة التي يمكن أن تتطور لتصبح بهتانا وربما نميمة، وهذا الأمر ملاحظ حتى عند كثير من العائلات، حيث يكون الغائب موضوعا للغيبة (وربما حتى البهتان والنميمية) التي تغيب عند حضوره ليحل محلها عنصر آخر ألا وهو عنصر النفاق.
وعلينا أن نتصور النتائج التي يمكن أن تتمخض عن هذه البوائق، ومما لا شك فيه أن سيادة أحد أو بعض عناصر هذه الثلاثية أو كلها من الأسباب الرئيسية لنشوب عدد كبير من الخصومات التي تقع بين الناس بمن فيهم الأصدقاء وحتى في العائلات، إذ يصل الأمر إلى حد قطع ما أمر الله به أن يوصل. من هنا يتبين أننا إذا كنا نحرص على صون كلامنا عن هذه الممارسات الكلامية المقيتة، فإنه يتعين علينا الالتزام بتطبيق النصوص الشرعية الواردة في هذا الشأن، منها ما ذُكر أعلاه ومنها ما لم يُذكر كقوله تعالى في الآية 12 من سورة الحجرات « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ». صدق الله العظيم.
اللَّهمّ إنا نسألك أن تعيننا على صون ألسنتنا عن الغيبة والنميمة والبهتان وشهادة الزور. آمين
الحسن جرودي





Aucun commentaire