Home»International»الناس في هذه الدنيا إما شموع تحترق لتضيء أو أشواك منتصبة لتشوك

الناس في هذه الدنيا إما شموع تحترق لتضيء أو أشواك منتصبة لتشوك

0
Shares
PinterestGoogle+
 

الناس  في هذه الدنيا إما شموع تحترق لتضيء أو أشواك منتصبة لتشوك

محمد شركي

الناس معادن كما قال أهل الخبرة بهم منذ غابر الأزمان ، وهو تشبيه بليغ أصاب كبد الحقيقة أول من استعمله ، وهو دون شك خبير بالناس كخبرة صاحب المعادن بثمينها وخسيسها ،والتي لا تعرف نفاستها أو خستها إلا بعد أن  تفتن أو تصهر بنار.

وكما أن النار كلما اشتد أوارها تبينت نفاسة أوخسة المعادن المفتونة بها ، فإن الناس كذلك كلما طالت  معاشرتهم تبين كريمهم من لئيمهم ، ولهذا صدق الشاعر إذ يقول :

إذا ما الناس جرّبهم لبيب = فإني قد أكلتهمو وذاقا

وليس من يذوقهم كمن يأكلهم ،وأكلهم أو ذوقهم  يكون حسب طول أو قصر مدة معاشرتهم. ومن ذاقهم غالبا ما ينبو سهم حكمه عليهم لقلة معرفته بهم  . وغالبا أيضا ما يكون الذوق خدّاعا كما قال الله تعالى في وصف المنافقين وهم من صنف المعدن الخسيس : ((  وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم )).

ولهذا كان من اللازم أن تحصل الخبرة بالناس لمن يأكلهم لا لمن يكتفي بذوقهم .

والناس إذا ما فتنوا كما تفتن المعادن كانت النتيجة تماما كنتيجة فتنة المعادن لا تخرج عن نفاسة أو خسة . والنفيس من الناس هم من حباهم الله عز وجل بحسن الخلق الجامع لكل الفضائل، وعلى رأسها  فضيلة الإيثار، وهو كنز ثمين لا يملكه إلا خيار الناس ، وقد أثنى عليه رب العزة جل جلاله  بقوله في وصف ملاّكه : (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )) ، وأما الخسيس منهم فهم من ساء خلقهم وجمع كل الرذائل، وعلى رأسها رذيلة الأثرة، وهي آفة يستعيذ الفضلاء بالله عز وجل منها .

وما أشبه أهل الإيثار بالشموع التي تحترق لتضيء ، كما أن أهل الأثرة يشبهون الأشواك المنتصبة لتشوك ، وشتان بين من يضيء ، ومن يشوك.

والشمع من الناس يكون على الدوام طوع غيره متطوعا لخدمته في كل الأحوال بنكران ذات وإيثار وبأريحية، أما الشوك منهم، فيكون على الدوام مسيئا لغيره في كل الأحوال بأنانية وأثرة صارخة .

وإذا ما حصل أن جالس الإنسان الشموع من الناس حول مائدة طعام على سبيل التمثيل لا الحصر يجدهم حريصين على خدمته كأنهم خدمه ، ولا تكاد نفسه تحدثه برغبة أو تشتهي شيئا حتى يجدهم  يسارعون إلى تلبية رغبته وإن خفيت عنهم  قبل أن يفصح عنها ، وذلك من فرط حرصهم على تقديمه وإيثاره على أنفسهم، ولا تمتد أيديهم إلى  ما تشتهي أنفسهم  من لذيذ الطعام أو الشراب  قبله ، ويدعونه  بأدب إلى  التفضل بالأكل والشرب وهم ضيوف مثله وكأنهم هم  المضيفون . و ترتسم الابتسامات العريضة على وجوههم ، ويحدثونه بخير  الحديث وطيّبه وجميله، فيطيب بذلك مقامه بينهم ، وقد يتعلم منهم ما لم يروض نفسه عليه من كريم سجاياهم وهم لا يشعرون .

وأما إذا ما جالس الأشواك منهم حول نفس المائدة يجدهم حريصين على تفضيل أنفسهم عليه وقد تضخمت أثرتهم ، ولا يستحيون من مد أيديهم  قبله إلى ما لذ وطاب من الطعام والشراب ، لا هم يصغّرون لقمة ،ولاهم  يأكلون مما يليهم بل يقتحمون عليه حماه ، فيصبون ما اشتهت أنفسهم  بشراهة ، ويتركون له ما فضل عنهم ، ويلتهمون الطعام في صمت رهيب لا تسمع معه إلا  أصوات المضغ والبلع كأنهم أنعام أمام  أوعية العلف . ومن سوء خلقهم أنهم لا يستحيون أيضا من استخدام من يشاركهم مآدبهم ، فيطلبون منه تارة خبزا، وطورا آنية، وآخر منديلا ، ولا تقف مطالبهم أو بالأحرى أوامره عند حد، ويكونون آخر من ترفع أيديهم عن الطعام … إلى غير ذلك مما نربأ بذكره من سوء خلقهم  إكراما للقراء الكرام ، والذين لا شك أنهم  أدرى بهم، ذلك أنه كل من جمعتهم المآدب بهم في الولائم ، فهو يحتفظ في ذاكرته بأسوأ ذكريات مع أثرتهم .

وقد يكون الواحد قد ذاق منهم، ولم يأكل كما قال الشاعر الحكيم ، فيبدو له من خلال لقاء عابر معهم أنهم من خيار الناس، لكنه يصدم  بسوء خلقهم حين  تجمعه  بهم موائد الولائم ، ويكون حينئذ آكلا لهم لا ذائقا .

والمصيبة الكبرى أن تكون الأثرة ضاربة أطنابها في قومه وعشيرته أو وفي أقرب الناس إليه وهو شمعة بينهم وهم أشواك ، فيشقى بذلك شقاء اللبيب الكريم  بينما ينعمون نعيم  الجهّال اللئام . والأكبر من هذه المصيبة أن يكون الشريكان شراكة زواج أحدهم شمعة والآخر شوكة ، فيشقى أحدهما شقاء شمعة تحترق وهي تضيء ،بينما ينعم الشريك بضوئه وهو يتلذذ بألمه حين يشوكه ،وبهذا تكون  » تكون مصائب شمع عند شوك فوائد  » قياسا على قول الشاعر الحكيم :

 » مصاب قوم عند قوم فوائد « 

ولا يخلو في هذه الدنيا الإنسان إن كان شمعة من تعرضه لأذى الإنسان الشوكة، وله في ذلك حكايات شتى إذا ما قصها على شموع مثله حين يحز في نفوسهم وخز الأشواك. والغريب أن الشوك من الناس يظنون السذاجة بالشموع منهم ، ويرون فضيلة  الإيثارهم عندهم غباء، بينما يرون رذيلة الأثرة فيهم شطارة وذكاء، وهم غافلون عما تعلمه الشموع عنهم وهم لا يشعرون.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.