قصة قصيرة ..: التائهون….. بقلم: عبد المجيد بنمسعود
بقلم: عبد المجيد بنمسعود
في غمرة تطلع الناس إلى ربيع فيه يغاثون، وصيف فيه يعصرون، وفي خضم صخبهم وهم يلعبون، بل وفي غمرة هدير آلاتهم وعجيجها وهم يصنعون وينتجون، وفي أتون سباقهم المادي المحموم لمراكمة المزيد من المتاع المادي الذي تقر لهم به العيون، ودون سابق علم ولا صفارات إنذار، في لحظة فارقة من ليل أو نهار، إذا بالأمر النافذ يصدر من الواحد القهار، وإذا بالأرض تبدل غير الأرض والسموات، تبعثرت كل الخطط والحسابات، ما تعلق بها من جد أولعب، وخمد ما تطويه المصانع من المنشآت والآلات، بل طويت كل الدفاتر والسجلات، ودفنت إلى إشعار غير معلوم، قد لا يأتي البتة، فتتبخر الأحلام، وتحل محلها الآلام.
حركة غريبة مريبة تمخر عباب الكون، وتسري في أعماقه مصحوبة بالهواجس والأوجاع، رياح تهب من كل صوب تهد الأركان وتمزق القلاع. كل مخلوقات الأرض أضحت في حيرة من أمرها وشرود يهد كيانها، وكأنني بها قد اجتمعت في صعيد واحد، تجتر مخاوفها، وتجأر بإشفاقها لما أصاب الكون من شتى مظاهر الاختلال والاعتلال، لا شيء ظل على طبيعته ومعهوده. هجرت الطيور أوكارها في اتجاه غير معلوم، مخلفة أصداء كئيبة من البكاء والنواح، ضجت لها الجبال والبحار والبطاح، وأطلقت الوحوش أصواتها المرعبة المصمة للآذان، هاجت وماجت، وتحلقت في مشاهد رهيبة لبرهة من الزمان، ثم أطلقت العنان للركض في الأزقة والشوارع والطرقات، ثم احتشدت في صفوف عريضة طويلة، وراحت تنظر إلى المنازل والعمارات، والأبراج وناطحات السحاب، وفي لحظة واحدة أصدرت صوتا صاخبا، بين الغضب والبكاء، ثم عاودت الركض عبر الشورارع والأسواق، ثم اقتحمت الإدارات والمؤسسات، أمام ذهول السكان الذين ولوا ناكصين مذعورين في اتجاه الغابات، تحول ذهولهم إلى جنون، عندما رأوا أصواتهم تنقلب من أصوات بني آدم إلى أصوات بني الحيوان، منهم من صدرت من حلوقهم أصوات النباح، ومنهم من خرج من حناجرهم نهيق الحمير، ومنهم من خرج من أفواههم نخير الخنازير، وحتى الفحيح كان حاضرا من بين تلك الأصوات المذهلة الغريبة. واصلوا تسابقهم المحموم، يعثر بعضهم في أعقاب بعض، والعرق يتصبب بغزارة من على أجسادهم المرهقة المكدودة، التي انطلقت منها روائح نتنة لوثت الأجواء، وكادت تختنق لها أنفاس الوحوش التي احتلت المدن، واقتسمت بينها شقق الأبراج والعمارات والفيلات الفخمة. أما الأكواخ الحقيرة ومدن القصدير، فقد عافتها واستنكفت من اتخاذها سكنا لها. والمفاجأة الكبرى أن القوم عندما بلغوا إلى مشارف الغابات، أدركوا أنها مسيجة بسياج فولاذي منيع، مكسو بالأسلاك المحكمة، فما كان منهم إلا أن نكصوا على أعقابهم، وولوا هاربين مولولين، ينهكهم الجوع والعطش، في اتجاه المدن التي بارحوها. وعندما بلغوها وجدوها موصدة، وعند أبوابها لفيف من أصناف الحيوانات، فطلبوا منهم أن يدلوا بجوازات المرور، أوبوثائق تثبت ملكيتهم لتلك المدن، فلما لم يجدوا بحوزتهم شيئا من ذلك طلب منهم أن يرجعوا من حيث أتوا، وأن لا يعاودوا الرجوع إلى المكان.
فما كان منهم وقد يئسوا بعد استعطاف ذليل للجان الحيوانية المكلفة بالحراسة، ومحاولة إقناعهم بشتى الأساليب والطرق- حتى ما تعلق منها بالإرشاء بما تبقى لديهم من مال وذهب – بأنهم كانوا يقيمون في تلك المساكن، ما كان منهم إلا ييمموا وجوههم قبل البراري والقفار، في رحلة تيه شديدة العذاب والعناء، تساقط منهم خلالها خلق كثير من النساء والشيوخ والولدان، بين المفاوز وشعاب الجبال. وكانوا يخلدون إلى الراحة بين مرحلة ومرحلة من مراحل التيه، ومما زاد حالتهم النفسية سوءا، أن الأصوات الحيوانية ظلت تلازمهم، ففي كل مرة كانوا يجربون حناجرهم، لا يخرج منها إلا النباح والنهيق والنخير والفحيح، بل وأصوات أخرى قبيحة، لم تعهد حتى في عالم الحيوان.
كانت حشود التائهين كثيفة لا يحصيها العد، كان منهم الصفر والبيض والشقر والسود، والسمر، على تفاوت فيما بينهم في النسب، وكانت بعض فئات من السمر تعاودها بين الفينة والأخرى بعض ملامح اللغات والأصوات الآدمية، إلى جانب لفيف من الألوان الأخرى، كان أفرادها ينطقون لغة واحدة، وكانت تبدو عليهم بعض مخايل وسمات، تجتمع كلها في قاسم مشترك، هو تعبير الحسرة والندم، الإشفاق والانكسار، أما الشقر والبيض منهم، فكانت سيماء الكلاحة والصفاقة فيهم صارخة بادية للعيان، وكانوا مميزين بين تلك الجموع الغفيرة التي تملأ وجه الصحراء المترامية الأطراف، بانتفاخ بطونهم، وظهور علامات التسمم على وجوههم، وأرجلهم وأيديهم، وكان كثير منهم تنتابهم نوبات من الصرع، لا يملكون جراءها إلا أن يتمرغوا في الرمال الساخنة تمرغ الملدوغ، وهم يطلقون صراخا تردد أصداءه جنبات الصحراء.
انهدت من جموع التائهين الأجسام، وتورمت الأقدام، واعتصرت قلوبهم مشاعر الحسرة والأسى، وتمنى الكثيرون منهم لو ابتلعتهم الرمال، فذلك أهون عليهم من عذاب تنهد له الجبال.
تحاملوا على أنفسهم وحثوا بعضهم البعض على مواصلة المسير، مستغلين فترة الليل، وتفرقوا طرائق قددا في مجاهل الصحراء الشاسعة الأرجاء، وفي غمرة الليل البهيم، وعلى عكس ما ترجوه من التقاط الأنفاس، واسترجاع بعض العافية، بدأت تظهر عليهم أعراض غريبة لم يألفوها من قبل، سعال حاد إلى حد الاختناق، حمى شديدة وإعياء، وتسارع في ضربات القلب، وأعراض أخرى. وبدءوا في التساقط والانهيار، قضت منهم أعداد هنا وهناك وسط الجموع المفرقة في مجاهل الصحراء. كانت أعداد الهالكين تتزايد كل يوم، خاصة من بين الصفر والشقر، وكان أن قضى عدد هام حتى في صفوف السمر والسود. تداعى الكبراء من أهل التيه إلى البحث عن أصل هذه الظاهرة الغريبة المؤرقة، وهذا الداء الوبيل، الذي لم يشهد له من قبل مثيل.
وفي خضم البحث المتسارع المحموم عن علاج ناجع للداء العضال، كان أطراف الكبراء يتراشقون التهم، زاعمين أن الذي حصل هو بفعل فاعل، وكثرت التحاليل والتخرصات، والمبررات والتخريجات، وقال الحكماء العارفون بالأحوال الذين أبقتهم إرادة الواحد المتعال، وسط جموع التائهين: مهما يكن الحال، فإن الأمر الجازم الأكيد، أن سبب هذا الوباء الشنيع، هو تعفن مريع تخلق في شريحة من كبراء التائهين، ثم انتقل إلى شريحة من صغراء التائهين، الذين ظلوا لهم تابعين، وفي ركابهم سائرين، والأمر يتعلق- كما أكدت ذلك مختبرات الكبراء- بفيروس خطير،غريب الأطوار والأحوال، يخوض الآن ملحمة منقطعة النظير، بأمر من العلي القدير، بهدف التحرير والتطهير، ولا مفر منه ومن أقرانه، إلا إلى من قال، وهو أعز من قائل سبحانه، في محكم التنزيل » ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين » ( الذاريات: 55 – 51).
وجدة في 21- 03- 2020
Aucun commentaire