Home»National»مؤسسة المخزن: ملامح تاريخية وتجليات

مؤسسة المخزن: ملامح تاريخية وتجليات

2
Shares
PinterestGoogle+

لا يمكن الحديث عن ما أبدعه المخيال الشعبي عن المخزن، وحصره في فترة زمنية محددة. كما أنه لا يمكن الجزم بأن المخزن، في تمثلاته، استقر على نشأته الأولى، لقد بات يتدرج ويتبلور في مخيال وذاكرة الشعب، حتى صار إلى ما هو عليه الآن، تجلى المخزن في أبشع صوره، فحملت الذاكرة الشعبية تلك الصور وشما وصار المخزن ثقافة تؤثث المعاش اليومي لمختلف الطبقات الاجتماعية، لأن استراتيجية المخزن، كبنية إدارية، هي استقطاب كافة فئات المجتمع التي تم تقسيمها، في نظري، إلى ثلاث فئات: 1) خدام المخزن 2) الشعب 3) المثقف.
خدام المخزن، هم رجالاته، ويمثلون النخبة (Élite) المقربة والتي تشكل إلى جانب السلطان، مركز القرار، ويمتد نفوذها في مجموع البلاد لتتغلغل بين ثنيات أفراد المجتمع وجماعاته، أي في الحواضر وبين القبائل في البادية، ومنها شخصيات لا يمكن اختزالها من ذاكرة المغاربة، من طينة الباشا والقايد ولخليفة والشيخ والمخازني ولمشاورية والـﯖـيش والـﯖـوم … كلها ركائز المخزن، ولو أن ساكنة البادية تعرضت منذ زمن غير بعيد، وعبر مراحل تاريخية، لعملية تهجير أفضت في النهاية إلى إخلاء عدد من البوادي، ليزحف ساكنتها نحو المدن، وكل ذلك من أجل تفكيك بنية الجتمع وإعادة ترتيبها وفق مقاربة أمنية، ولنا في أنفا/الدار البيضاء أكبر نموذج … وهي سياسة منتهجة للقضاء على بؤر التوتر على خلفية بلاد المخزن وبلاد السيبة، ثم فسح باب الهجرة نحو أوروبا أمام ساكنة منطقة الريف بشكل خاص …
وقد تعرضت العديد من الدراسات لتاريخ المخزن وتغلغله في المجتمع ومنجزاته، باعتباره مؤسسة قائمة بذاتها، حيث أن الحديث عن هذه المؤسسة يحيل الباحث والمهتم على ما حققه المخزن عبر مراحل تاريخية، خاصة في عهد الدولة السعدية وصولا إلى الدولة العلوية، ومن بين هذه الدراسات كتاب « المؤسسة المخزنية في تاريخ المغرب » للباحث المغربي محمد جادور(1) الذي تناول تجربتين من تاريخ المخزن، قارب من خلالهما حكم كل من السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي (1578/1603م) والسلطان العلوي المولى إسماعيل (1672/1727م)، وهي دراسة ذات أهمية بالغة، حيث تعرف مؤسسة المخزن وتطوره، وقبله العديد من الدراسات حول جهاز المخزن، أنجزها أجانب ومغارب تعد مرجعا أساسا في تناول « ظاهرة المخزن » التي، ربما يتفرد المغرب بها، باعتبار أن المخزن عرف الثابت والمتحول في مسيرته، وقد تميز بإقصاء أي تجربة يمكن أن تأخذ مكانه، رغم عدد من المحاولات قامت بها « النخب » السياسية أو العسكرية عبر الانقلابات التي عرفتها مرحلة السبعينيات، أو موجات الاحتجاج التي عرفها الشارع المغربي مؤطرة أو عشوائية أو متأثرة بالوضع العالمي العام لمناصرة قضية من القضايا ذات الاهتمام المشترك، منها « القضية » الفلسطينية … وصولا إلى الاحتجاج الذي أفرز دستور 2011.
هذا وقد مناسبة استقلال المغرب عبر خروج الاحتلال الفرنسي وعودة الملك البلاد الراحل، الملك نحمد الخامس من منفاه، وتتويجه رمزا للكفاح من أجل الاستقلال من طرف الحركة الوطنية المغربية … كانت المناسبة قائمة لتصفية رموز الاستعمار والمعاونين معه ممن نكلوا بالشعب المغربي، فتأسس ما عرف حينئذ بلجنة التطهير، والتي عدد الخونة بأسمائهم، لكن ورغم تأسيس لجنة التطهير هذه في سنة 1958م، و تجريد البعض منهم من الممتلكات التي نهبوها، وحرمانهم من حقوق المواطنة، والتي لم يكترثوا بها أبدا، لأن الخائن لا وطن له. سوف يتم العفو عنهم بعد ذلك، وينعم أبناؤهم في أموال طائلة اغتصبها آباؤهم من التجار والفلاحين والكادحينن، ويبقى الشيء المتميز في هذا كله، هو أن المغاربة لم ينسوا أبدا جلاديهم. فبعض أسماء خدام المخزن لا تزال متداولة بسبب جبروتها وما قدمته لدار المخزن من خدمات من خلال إخضاع القبائل والتنكيل بالمعارضين.
أما فئة الشعب فهي المفعول به في جميع الأحوال، فالشعب من يدفع ثمن الخسارة دون مقابل، ومن الشعب ترعرعت الفئة الثالثة، فئة المثقفين الذين حاولوا في الكثير من الأوقات القيام بدورهم العضوي داخل المجتمع عبر التأطير والتأجيج وطرح القضايا والتوعية، لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال ليصبح مآل هؤلاء المثقفين المناوئين الموسومين باليسار، السجن والتغييب … فغابت شريحة مهمة من أطر وطاقات بشرية لم يسمح لها بالمساهمة في استشراف مستقبل مغرب تخلص للتو من قبضة دول الاستعمار، وبناء مغرب الغد، لأن مشاريع هذه الفئة المثقفة الواعية تتعارض وتطلعات الطغمة المسيطرة على دواليب الإدارة والاقتصاد، والمنقضة أيضا للمناخ الدولي العام الذي يصر على إبقاء الدول المستعمرة مرتبطة به بشتى الأشكال وعلى مستوى عدد من الواجهات، لتستمر هذا الوضع ما يزيد عن الأربعة عقود وتتسع دائرة الأمية والتخلف بعيدا عن إقلاع اقتصادي حقيقي يبعد البلد عن هيمنة المؤسسات المالية الجنبية وينئى بها عن الصراعات الإقليمية الموروثة من الفترة الاستعمارية، ومنها المشكل المفتعل بالأقاليم الجنوبية المغربية مع الأشقاء الجزائريين …
أما الآن، وقد حصلت هذه اليقظة، يبدو الوضع متأزما على مختلف المستويات، الاجتماعية بخاصة: الصحة والتعليم والبطالة والسكن والديون الخارجية، ناهيك عن العنف، بمفهومه السوسيولوجي، الذي أضحى ظاهرة مجتمعية، ولا يمكن إيعازه لسبب واحد أو ظرفية معينة، بقدر ما هو نتاج تراكم عقود من التخويف وفقدان الثقة في الإدارة بسبب القمع الذي جعل من المواطن، في فترة زمنية طويلة، لا يجرؤ على طلب نسخة من رسم الولادة أو وثيقة حسن السيرة … صحيح أن القطيعة قائمة ليس بشكل تام، مع العهد القديم، وأن مغرب اليوم هو مغرب العهد الجديد، لكن هذا لا يمنع من الإقرار بسلبية نتائج كل تلك السنوات، والأدهى أن العديد من العقليات تصر على أن تستمر بنفس النهج …
لم يكن الأمر هينا بالنسبة للمخزن كي يبني مؤسسته، ويؤسس لثقافة سياسية متفردة خاصة به، ويتجلى تفرده في صعوبة القبض عليه و تعريفه و تحديد معالمه، فهو مستمر، يتجدد و تتجدد بواسطته النخب، وتستمر السيطرة على المجتمع عبر الضبط والتتبع اليومي وانتهاج سياسة التخويف وفق أشكال متفاوتة.
إن المخزن لا ينتقي خدامه من فئة اجتماعية بعينها، بل له آذان تسمع وعيون ترى في كل مكان حتى « الحيطان ليها أودان »، إذ يمكن للمخزن أن يتخلى عن خدامه عند الشعور بأي خطر أو تهاون قد يؤدي إلى التقليل من هبته بين القبائل عامة الشعب، لأن « المخزن ما عندو حبيب » و »حبال المخزن طويلة » …
في تاريخ المغرب، عمد المخزن لتغليق أبواب الدولة و صد كل ما من شأنه تنوير المجتمع، أو خلق الاختلاف، وتفرغ المخزن لاكتساح بنية المجتمع و النزول به إلى مرتبة الخنوغ، وفي هذا الصدد تم استغلال عدد من الوسائل والواجهات، منها الواجهة الدينية بشكل سلبي لتفرز فيما بعد فئة سوف تخرج عن حبال المخزن نفسه لأنها سلك طريق الزرع الخوف في نفوس الناس البسطاء مستغلة جهلهم بين عذاب الدنيا وعذاب القبر وعذاب الآخرة وتمرير خطاب لا علاقة للدين به، لأن انعكاس هذا الخطاب أيديولوجي، ولا أقصد الزوايا هنا، لأنه هذه الأخيرة خير سند لمؤسسة المخزن … كان المجال خصبا لبث الخرافة والوهم والمعتقدات الخاطئة. هكذا ينتشر الأولياء والصلحاء في كل نقطة من بلاد المغرب، وتنتشر معه العديد من الممارسات من بقايا الوثنية على شكل طقوس ورموز وعادات، خاصة خلال المواسم والأضرحة، وكل يدعي النسب الشريف، لدرجة أن بعضا من هذه الأضرحة لا يعرف الناس أصحابها ومن يرقد بداخلها. ثم انتشار الزوايا وتشجيع المخزن لها. فكان ولا زال لهذه المؤسسات، الأضرحة والزوايا، الدور الكبير في تأطير المجتمع وفق استراتيجية سياسية تعمل على توظيف الثقافة الشعبية لصالح مؤسسة المخزن.
وبالرجوع لتاريخ المخزن سوف نقف على قوته وبطشه وقدرته على « تأديب » من خرج عن طاعته من القبائل، ونضرب مثلا بقبيلة الرحامنة، فقد تم الضرب بقوة على يد قبائل الرحامنة حين كان المخزن يتنقل بين القبائل ويخضعها و »يؤدبها » ويأسر عددا غير قليل من رجالها ويأخذ منها الضرائب، ويشيع خبر ذلك بين بقية القبائل لتكون العبرة لمن يعتبر.
فقد لقيت طوابير المخزن مقاومة عنيفة في الجنوب، كما في مختلف مناطق المغرب، استمرت عبر مر التاريخ، خاصة خلال العهدين السعدي والعلوي، ومنها عهد السلطان المولى عبد العزيز عند إخضاع قبائل الجنوب، ومنها الرحامنة، فكانت المحلات السلطانية تجد صعوبة كبيرة في « ضبط » القبائل، وقد تطلب هذا الأمر شهورا، بل سنوات، ومنها مقاومة محمد ؤهاشم شريف زاوية سيدي احماد ؤموسى التي باءت بالفشل أمام المخزن. وجدير بالذكر أن طابور المخزن ظل يخضع لتدريبات من طرف عملاء فرنسيين وأنجليز، وكانت القبائل ترضخ لمتطلبات طوابير المخزن وتؤدي الضرائب، لكن المخزن يخل باتفاقه ويقتحم القبائل وينكل بها ويأسر رجالها، نذكر على سبيل المثال ما حصل مع القبائل المجاورة لقصبة بن أحمد(عشاش والخساسرة وأولاد امحمد والولاد …) عند صخرة « الدجاجة » شتنبر 1897م، فتطلب الأمر مكوث السلطان ومرافقيه، الصدر الأعظم والوزراء وقائد المحلة مولاي الأمين عم السلطان وسيدي محمد الأمراني، مدة ثلاثة أشهر حتى تم إخضاع كل القبائل والتنكيل بها ونهبها(3)(نفسه)
كما يعمد المخزن لخلع عدد من رجاله وتعويضهم بآخرين، دون اعتراف بما قدموه من خدمات، وفي ذلك إظهار لقوة دار المخزن ومدى تحكمها في مجريات تدبير وإقرار نظامها، ثم إعطاء العبرة أيضا لكل « خديم » كي يتفانى أكثر، لأن زلاته لن تشفع له. كما يمكن للمخزن أن يصنع من نكرة رجل دولة عظيم، مثل « المهدي المنبهي » الذي لم يكن ينتمي لعائلة معروفة، وقد كان مجرد « مخزني » لا يتجاوز دوره « علاف »، فأضحى الآمر الناهي وصديق السلطان مولاي عبد العزيز، حيث تولى منصب وزير الحرب، وما كان ليبلغ هذا المنصب لولى توصية الصدر الأعظم با حماد وهو على فراش الموت، حيث كان يعز المنبهي بسبب فطنته، وكان قد عينه بداية على رأس قبيلة لمنابهة، وبعدها صار على رأس المخزن برمته(2).

الهوامش
اعتمدنا باختزال شديد على المراجع أدناه، إذ عمدنا لسرد خلاصات قراءتنا لها، أو بعض من هذه الخلاصات، وللتوسع يمكن للقارى العودة إليها ولغيرها من الكتابات القيمة التي أرخت لمؤسسة المخزن، لأنه في اعتقادنا، لابد من النبش في تاريخ هذه المؤسسة قصد التعريف بها وبنظميتها:
1ـ محمد جادور، مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب، مؤسسة الملك عبدالعزيز آل سعود للدراسات الاسلامية، الدار البيضاء، ط1،2011
2ـ لويس أرنو، زمن لمحلات السلطانية: الجيش المغربي وأحداث قبائل المغرب ما بين 1860 و1912م، ترجمة محمد ناجي بن عمر، ط1، 2002، إفريقيا الشرق، المغرب)
3ـ نفسه

د. محمد حماس

 

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *