الكشف المبكر والواقع المنفر !
مخجل ومؤلم حقا أن تتغنى حكوماتنا المتعاقبة بإنجازات كاذبة، والأسوأ من ذلك اعتقاد قادتها الجدد من « البكائين » أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح، ويسعون بجدية إلى تحقيق التنمية البشرية المأمولة، وتكريس حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا، والحال أن الواقع يفند ذلك لما يحياه المواطن من معاناة، لن تفلح في رفعها دغدغة مشاعره والتلاعب بعواطفه، من خلال ثنائية الخطاب وتزييف الحقائق، لاسيما إبان الحملات الانتخابية أو غيرها من الحملات الوطنية التحسيسية، سواء منها تلك المتعلقة بمحاربة الرشوة، أو بالوقاية من حوادث السير، أو بالعنف ضد النساء أو بالكشف المبكر لسرطان الثدي لدى المرأة… وما تستنزفه من أموال ضخمة في دعايات صورية، تحت يافطات مغرية وشعارات واهية.
وفي هذا الصدد نعرض باقتضاب شديد، إلى الحملة الوطنية للتحسيس بالكشف المبكر عن داء سرطان الثدي لدى النساء، التي أعطت انطلاقتها من الرباط صاحبة السمو الملكي الأميرة للا سلمى، في الأيام القليلة الماضية من 22 نونبر إلى 11 دجنبر إبان العام الميلادي المنصرم 2016، تحت شعار: « الكشف بكري بالذهب مشري ». وهي حملة تروم استقطاب أكبر عدد ممكن من النساء المتراوحة أعمارهن بين 40 و69 سنة، وتندرج في إطار المخطط الوطني 2019/2010 الخاص بالوقاية من السرطان، والهادف إلى محاولة تخفيض معدل الوفيات في أوساط النساء.
وفضلا عما حظيت به من تعبئة مختلف وسائل الإعلام: تلفزيون وإذاعة، ملصقات وصحافة مكتوبة ومواقع إلكترونية، وحملات تواصلية ميدانية في المستوصفات والمستشفيات العمومية، وعقد ندوات وتنظيم لقاءات تحسيسية وتوعوية، تم وضع برنامج وطني يتضمن توجيهات عامة، حول أهداف الكشف المبكر عن مرض سرطان الثدي الفتاك، واستبشر المواطنون والنساء بصفة خاصة خيرا، اعتقادا منهن أن وزارة الصحة ستقوم فعلا إلى جانب مجانية التشخيص، المتمثل في إجراء فحص سريري بالمستوصفات والمراكز الصحية، والكشف الإشعاعي للثدي لدى المرأة، بتوفير التجهيزات اللازمة والموارد البشرية الكافية، التي من شأنها استيعاب الوافدات وإنجاح الحملة الوطنية، التي لقيت تجاوبا منقطع النظير عند النساء المستهدفات.
بيد أنه سرعان ما تبدت الحقيقة صادمة أمام مئات النساء، اللواتي فضلن انتظار انطفاء الأضواء وتبخر اللغط في الهواء، تفاديا للاكتظاظ، لتكتشفن أن دار لقمان لم تتغير، وأنهن ذهبن ضحية تضليل مقصود، إذ مازال واقع الصحة العمومية يعرف اختلالات بنيوية وهيكلية عميقة، وفي مقدمتها النقص المهول في التجهيزات اللوجيستية والموارد البشرية، ويرسف تحت أغلال الفساد، المتجلية في تفشي مظاهر الرشوة والمحسوبية… مما اضطرت معه أعداد غفيرة من النساء إلى الاستسلام والعودة إلى بيوتها تجر وراءها أذيال الخيبة والإحباط، بينما لجأت جماعات أخرى إلى الاقتراض وإجراء الفحوص لدى الخواص، للتغلب على ما تسرب إليهن من وساوس. وإلا كيف نفهم إرجاء استكمال الفحص لوقت لاحق بالنسبة للبعض، وتحديد مواعيد بعيدة تفوق 3 أشهر لإجرائه لأخريات ؟
فسرطان الثدي عبارة عن تجمع خلايا في نسيج الثدي، تنمو بصورة غير منتظمة وغير طبيعية، ويشكل وسرطان عنق الرحم عبئا ثقيلا وتكلفة مادية باهظة على جيوب الأسر كما على ميزانية الدولة، حيث أن الداءين معا لا يمثلان فقط أكثر أنواع السرطانات شيوعا بين النساء، بنسبة 36 % لسرطان الثدي و12,8 % لسرطان عنق الرحم، بل لأنهما يتسببان في ارتفاع عدد الوفيات عند تأخير التشخيص. وهو ما جعل جمعية للا سلمى لمحاربة داء السرطان، تضع استراتيجية واضحة ومتكاملة، تحرص على مواكبة مهنيي الصحة في القطاعين الخاص والعام، بتنظيم مناظرات وورشات تكوينية حول مختلف مراحل الكشف والتشخيص المرتبطة بنوعي السرطان المذكورين أعلاه.
ويكتسي تصوير الثدي الشعاعي أو ما يعرف ب »الماموغرافي » أهمية بالغة، لما له من قدرة عالية على اكتشاف أورام سرطان الثدي في مراحل مبكرة قبل حدوث أي تغييرات ملموسة، وإن كان في واقع الأمر لا يعدو تشخيصا رتيبا، يتم بواسطته التقاط صورة إشعاعية لنسيج الثدي كاملا. فإلى أي حد استطاعت الحملات الوطنية للتحسيس والكشف المبكر الحد من انتشار هذا الداء اللعين؟
للأسف الشديد، ليست الحملات الموسمية الموسومة بالبهرجة، هي ما ينقص المغاربة في الوعي بما يتهدد حياتهم من مآس وأخطار، بقدرما هم في حاجة إلى النهوض بأوضاعهم المتدهورة على جميع الأصعدة. ثم كيف تستقيم أحوالهم الصحية، ونحن نعلم أن قطاع الصحة العمومية تعوزه الإرادة السياسية القوية، وتحديد استراتيجية وطنية حقيقية، للقيام بالإصلاحات الضرورية وإعادة الثقة للمواطنين؟ فوضعية القطاع جد مزرية، من حيث اهتراء البنيات التحتية، سوء التوزيع الجغرافي للمؤسسات الصحية والخصاص الصارخ في التجهيزات والموارد البشرية، من أطباء وممرضين وتقنيين في المراكز الاستشفائية والمستشفيات العمومية، وتدني الخدمات الطبية في المجالين الحضري والقروي، بسبب سياسات الترقيع والارتجال، مما جعل المغرب يحتل على الدوام رتبا متدنية في تصنيف منظمة الصحة العالمية.
كفى استخفافا بصحة المواطنين وإجهاض الأمل في نفوسهم وسرقة مستقبل أبنائهم، فلا الانتخابات أفرزت حكومات قوية في مستوى تطلعاتهم، ولا الحملات الوطنية قضت على الفساد أو قلصت من نسب ضحايا حوادث السير أو العنف أو السرطان… وإلى متى يظل المغاربة متجمدين في غياهب الانتظارية القاتلة، بينما هناك فئات محظوظة تمتص دماءهم وخيرات بلادهم، وسياسيون يتناطحون على المكاسب والمناصب، معتمدين على لغة التدليس والتضليل واستغلال الدين… ؟
اسماعيل الحلوتي
Aucun commentaire