الحسن الثاني الملك الفنان
أحمد الجبلي
في ذكرى وفاة الملك الحسن الثاني، قلت لابد أن أكتب شيئا عن ملك عشنا تحت حكمه لسنين عديدة بحلوها ومرها، وبما أن الجيل الجديد لا يعرف عنه شيئا، فلا بأس إذن من كتابة شيء ما حول ملك اعتبر حكمه ثاني أطول حكم في الدولة العلوية بعد المولى إسماعيل. فما الذي كان يميز شخصية الحسن الثاني كرجل وكملك وكسياسي؟
لقد عرف عن الراحل الحسن الثاني أنه كان سياسيا عالميا محنكا ومهيب الجانب، شهد له ملوك الأرض بالذكاء والعلم والمعرفة وكثرة الاطلاع، حتى عرف بالملك الفيلسوف، عرف بحواراته المباشرة الممتعة التي كانت تستهوي المغاربة جدا، حيث كانوا يفخرون بهذا الجانب في شخصية ملكهم كما كانوا يحفظون العديد من ردوده عن الأسئلة الحرجة والتي كانت تنم عن سرعة البديهة والقريحة الجيدة، كما اشتهر بخطاباته المرتجلة، ومنها تحديدا تلك الخطب التي كان يلقيها على الرؤساء العرب والتي كان يبدو فيها كأستاذ يلقي درسا على تلامذته، حيث كان يتفنن في أسلوبه العربي المبين وطريقة إلقائه الفريدة والمتميزة. وأما عن اللغات فالرجل كان يتقن العديد منها، وقد قال فيه الإعلام الفرنسي أنه يحسن اللغة الفرنسية أفضل من جاك شيراك حين استضافه هذا الأخير وكان عمدة مدينة باريس حينها.
لقد ربطته علاقات وطيدة بأشهر رجالات العلم والفكر والسياسة والمسرح والفن في العالم، كما كان مولعا بالتاريخ العربي والإسلامي حيث استلهم منه مشاريعه في الحفاظ على التراث والفلكلور والصناعة التقليدية، كما استلهم منه مجالس الملوك والأمراء مع أهل العلم والأدب والمعرفة.
ولعل الجانب السياسي والثقافي العلمي في الراحل الحسن الثاني كان أشهر من نار على علم، ولكن ما لا يعرفه العديد من الناس ومنهم الجيل الجديد أن الرجل كان فنانا بامتياز، وأحد أبرز جوانب الفن فيه أنه كان يحسن العزف على جميع الآلات الموسيقية، وبشكل خاص على الأكورديون التي كان يعزف عليها مقطوعات عالمية.
في أحد الحوارات التي أجرتها معه القناة الثانية الفرنسية قال: لو لم أكن ملكا لكنت فنانا، وهذه الإجابة تستدعينا لنتحدث عن الجانب الفني الذي كان أحد أهم المواهب التي كان يتمتع بها، ولعل العديد من كبار الفنانين في العالم العربي الذين لايزالون على قيد الحياة لا يزالون يذكرون يوم تمت استضافته لحضور مهرجان موسيقي بالقاهرة في أحد أكبر قاعاتها، حيث أحاط به كل من الموسيقار محمد عبد الوهاب وأحمد الطويل ورياض السنباطي وغيرهم، وكانت الفرقة الموسيقية على وشك أن تقدم مقطوعة من مقطوعاتها الوطنية لكن تفاجأ الجميع من تعقيب للحسن الثاني مباشرة بعد انطلاق المجموعة في العزف، حيث قال لمحمد عبد الوهاب: قل لموسيقييكم يضبطوا الأوتار ( يدوزنوا الآلات) قبل بداية العزف، مما اضطر الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى إسدال الستار والذهاب للتأكد من الأمر فإذا به يقف أمام آلاف الجماهير فيعطي التحية للملك الفنان الحسن الثاني اعترافا منه لخبرته بالآلات الموسيقية ولاكتسابه لأذن موسيقية قل من يمتلك مثلها. وهنا سيفتخر الملك الحسن الثاني ويشيد بالفنانين المغاربة حيث أخبر محمد عبد الوهاب أن المغاربة أحسن منهم في ضبط الآلات الوَتَرية لأن الفنان المغربي يعرف أن الرطوبة من الممكن أن تعبث بأوتاره ولذلك يضبطها وهو فوق الخشبة.
لقد كانت تجمعه بفناني مصر العديد من العلاقات الحميمية كتلك التي جمعته بالراحل عبد الحليم حافظ الذي كان أحد الحاضرين من ضمن آخرين أثناء انقلاب صخيرات حتى أنه شاع أنه هو من قرأ بيان الانقلاب على أمواج الإذاعة الوطنية. وعلاقته بعبد الحليم استطاع بعض المغرضين أن يفسدوها مما دفع بهذا الأخير غلى الرد بجواب عبر الأثير حيث رد بأغنية يمدح ويشيد فيها بالملك الحسن الثاني كعربون حب وصداقة وترجمة عملية بأن ما بينهما من صداقة لم يكن لتهزه رياح المغرضين والواشين الذين يغيظهم أن تكون هناك علاقة صداقة بين فنان وملك.
إن التاريخ الفني للحسن الثاني يشهد على أنه كانت له أيادي بيضاء على الفنانين المغاربة، كان يهب لهم هبات وأموالا ومأذونيات لعلمه بمعاناة الفنان المغربي الذي لا يجد ما يسد به رمقه عندما يعجز عن الوقوف فوق الخشبة. مثالا على ذلك حين استدعى الفنان المغربي المزكلدي لكي يغني في عرس ابنته، سأله الملك عن غيابه لأنه لم يكن قد رآه منذ مدة، فأجاب المزكلدي: نعم أسيدي اللي كلا حقو يغمض عينو » فقال له الملك وكيف هي أحوالك الآن؟ فأجاب المزكلدي: أنا مريض طريح الفراش ولا من سأل عني. وبعد الحفل استقبله الملك وقال له: ماذا تطلب؟ وبكل نبل أجاب المزكلدي: نعم أسيدي وضعي المادي مريح ولكني أريدكم أن تلتفتوا إلى المعطي بلقاسم، إنه يموت ولديه أكثر من سبعة أولاد.
ومن القصص الطريفة والجميلة التي وقعت لبعض الفنانين مع الحسن الثاني نذكر الفنان أحمد الغرباوي الذي طلب الملك أن يراه فلم يجدوه، لكونه كان يغني في العلب الليلية، لما التقى به سأله قائلا: أين ذهبت؟ فرد عليه: أبحث عن الخبز يا مولاي. حينها أمر الملك وزير الأنباء والثقافة حينها أحمد العلوي بتوظيفه، ولما التقى الملك بأحمد الغرباوي مرة أخرى سأله إن كانت الوظيفة قد أعجبته، فأجاب الغرباوي: لقد وظفوني في السلم 7 يا مولاي. فغضب الملك غضبا شديدا وقال لوزيره في الثقافة: هل مبدع إنها ملهمتي يتم توظيفه في السلم السابع؟
ومن الذين حضوا بعنايته الخاصة الفنان المغربي الحاج محمود الإدريسي صاحب الأغنية التي كان يعشقها الحسن الثاني وهي » يا بلادي عيشي » و الذي أغدق عليه الحسن الثاني في غير ما مرة هدايا وعطايا مالية كبيرة كما أهدى إليه برنوصين اثنين، حتى أنه في إحدى زيارات الإدريسي للحسن الثاني كان حينها الإدريسي مريضا بالزكام، فمازحه الحسن الثاني قائلا: ياك لاباس أسي محمود، فأجاب الإدريسي: فقط أسيدنا غير شي شويا يدال البرد. فأجابه الحسن الثاني مازحا بالدارجة المغربية: إيوا هدا عليا أسي محمود كاع البرانس ديالي خديتيهم.
وأما عن الحاج يونس الفنان المغربي الذي كان من أمهر العازفين على آلة العود فقد كان الملك يعجب به ويكرمه ويقول له أنا أكرم العود وعليك أن تقوم أنت كذلك بإكرامه، وهذه الكلمات دفعت بالحاج يونس لتأسيس مهرجان تطوان للوتريات الذي لازال مستمرا لحد الآن، وهو الأمر الذي تعامل معه الحسن الثاني بالمثل حيث اتصل هاتفيا بالحاج يونس وطلب منه أن يتجه إلى مدير البنك المغربي ويطلب منه ورقة مالية من فئة عشرة دراهم وسيرى أن الملك أمر بتكريم العود وذلك بجعله في هذه الورقة المالية، ولكن الحاج يونس سيعقب على الملك بقوله ولكن أسيدي هذا العود مصري وليس مغربيا لأن العود المصري هو الذي يحتوي على 12 لولبا أما المغربي فيشتمل على 11 لولبا فقط، فغضب الحسن الثاني وأمر بتصحيح الخطأ بعدما كانت الورقة المالية قد انتشرت ولكن لم يلتفت إليها أحد.
أما عن المجموعات الغنائية فكانت لمجموعة ناس الغيوان حكايات وقصص طريفة مع الراحل الحسن الثاني حيث يحكي أحد أفراد المجموعة عن حوارات موسيقية وملاحظات الحسن الثاني حول الآلات والموازين الموسيقية التي كانوا يستعملونها مما كان يجعلهم في حرج بالغ أمام عبقري فذ وموسيقي يهابه الموسيقيون عندما يعزفون أمامه.
ومن الغريب والمضحك في قصص ناس الغيوان ما وقع لعمر السيد عندما دخل للقصر الملكي أول مرة كمسرحي فقال للملك حتى أنا أريد أن أغني أغنية لقد لحنتها مؤخرا، فقال له الملك وما هي هذه الأغنية؟ فأجاب عمر السيد عنوانها: » قطتي صغيرة » فأجاب الملك: » هذه قطعة موجودة في التلاوة ». فانطلق عمر السيد يغني » قطتي صغيرة اسمها نميرة » فكانت هذه الأغنية هي المنطلق الذي على إثره تأسست مجموعة ناس الغيوان.
ومن أصعب المواقف المحرجة التي وقعت لناس الغيوان أمام الملك كمجموعة غنائية ثورية، عندما سأل الملك عمر السيد قائلا: إننا لا نراكم كثيرا في التلفزيون؟ فسارع أحمد البيضاوي لمزيد من التوريط والإحراج قائلا: نقوم بدعوتهم في المناسبات الوطنية فيرفضون. فتجمدت الدماء في عروق أإفراد مجموعة ناس الغيوان، ولكن الملك الحسن الثاني أجاب أحمد البيضاوي قائلا: أسي البيضاوي هادو ما تيغنيوش القطع الوطنية، ما عندهم ما يديروا بيها، هادوا عندهوم جمهور ديال الكاريان الحي المحمدي والناس (الحازقين) (بهذه العبارة)، وتايغنيو أغاني لا علاقة لها بما تقول، واش نجيبوهم بزز باش يغنيو أغاني وطنية » فأحرج الملك أحمد البيضاي ورفع الحرج عن ناس الغيوان.
لقد وصل يوما خبر إلى الحسن الثاني مفاده أن البعض يقول بأن الملك الحسن الثاني يبدد الأموال على الفنانين المشارقة حين يستدعيهم للمغرب، فغضب غضبا شديدا وخاطب الفنانين المغاربة قائلا: ثقوا بي فإنني لا أصرف درهما واحدا من خزينة المملكة، أنا أصرف عليهم من مالي الخاص، وأقوم بذلك لتتاح لكم الفرصة للاحتكاك بهؤلاء الفنانين حتى تتعلموا منهم، فأنا أعطيكم فرصة وأقدم لكم مدرسة وأقربها منكم حتى لا تتحملوا مشقة السفر إلى المشرق للتعلم
Aucun commentaire