وقفات وتأمّلات.. في رحلة الحج

في رحلة الحج جالت في نفسي خواطر، وتحركت فيَّ مشاعر، بوحي من بنات أفكاري، ومداد من حنايا أضلاعي… يحدوني الأمل في أن تجد في نفسك أخي القارئ قبولاً، وفي قلبك استجابة…
الوقفة الأولى: أني رأيت الحاج لما أجمع أمره لأداء فريضة الحج، وأزمع على المسير، سارع الى ديون ماضية وحقوق متقادمة، وخصومات مستحكمة، وأرحام متقطعة.. فبادر الى تسديد الديون ورد الحقوق، وحل الخصومات، ووصل الأرحام.
فقلت: ما أجملها من حياة لو كانت كلها حجاً، ولمَ لا نجعل كل أيامنا حجاً، فنسدد الديون وتردَّ الحقوق. ونحلّ المشكلات، ونصل الأرحام، إذاً لاستراح الناس.
الوقفة الثانية: نظرت الى الحاجّ مودِّعاً أهله وأحبابه وأبناءه وجيرانه وخلاّنه، الكل يعانقه بدموع مستبقة ومشاعر ملتهبة.. هذه أمّ تعانق ولدها وهي لا تدري هل يعود فيجدها على قيد الحياة أم لا؟ وذاك أب يودع ابنه وليس على يقين هل سيراه ثانية أم لا؟ وهؤلاء أبناء يودِّعون أباهم وأمهم لا يريدون أن يسمحوا لهم بالمغادرة، يبكون ولسان حالهم: يا رب سلّم سلّم..
قلت: إذا كان هذا البكاء لفراق أيام لا تزيد على عشرين يوماً، فكيف سيكون حالنا إذا ودعنا الوداع الطويل وحال بيننا وبين من نحب التراب؟ إنه فراق بعيد، فلمَ لا نستعدّ فنأخذ على أيدي أولادنا فنعلمهم دين الله وسنّة رسول الله والانتماء للإسلام، ونحذرهم الفتن والأهواء فنطمئنّ إذا فارقناهم؟
الوقفة الثالثة: رأيت الدنيا كلها حقيبة جمع فيها الحاج ما خفَّ من ثياب وبعض زاد يتبلّغ به إلى تلكم الديار، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين معلم أو أجير، فالكل دنياه اليوم حقيبة..
قلت: علامَ الطمع في الدنيا إذا كان يمكن أن تجمعها في حقيبة، ولماذا يسهر بعضنا ليله ويملأ نهاره ويفارق خلانه، ويقطع أرحامه من أجل الدنيا..؟ لماذا يأكل الناس الربا ويقترفون الحرام؟ ولماذا يغتصبون الحقوق..؟ إذاً فلنلو الزمام الى الباقيات الصالحات، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً.
الوقفة الرابعة: إنَّ رحيلنا عن وطننا يشبه الرحيل عن الدنيا إلى دار القرار، فها نحن نؤدي صلاة الظهر على أرض المطار، ولكن عبثاً نحاول أن نجد خشوعاً في صلاتنا، لأن ملاحي الطائرة ينادون وينذرون بأن الطائرة سوف تقلع.
قلت: إذا كنا لا نستطيع أداء الصلاة بخشوع لأن الطائرة ستتركنا إذا تأخرنا، فكيف هي حالنا إذا جاءنا ملك الموت، ووقتها لن نتمكن من أداء ركعة أو تسبيحة أو صدقة، فلم لا نبادر بالأعمال الصالحة قبل الموت؟
الوقفة الخامسة: رأيت الحاج يلبس إحرامه متستِّراً وراء جدار. مزرِّراً رداءه بالدبابيس، متفقِّداً حاله هل يبدو من جسده شيء فيستره!
فقلت: كيف سيكون حالنا إذا وضعنا على لوح مغتسلنا، وجُرِّدنا من ثيابنا دون اختيار..؟
الوقفة السادسة: عايشت الحجاج يجلسون على مائدة واحدة، تختلف أيديهم في الزاد، يتفقد كل منهم أخاه إذا غاب..
فقلت: لمَ لا نكون هنا كما كنا هناك؟ متحابين نتفقد أحوال بعضنا.. إذاً لتغيرت أحوالنا، ولساد المجتمع المحبّة والاخاء.
الوقفة السابعة: نظرت إلى الحجاج في عرفة، ثيابهم موحدة وأشكالهم مختلفة، الأحمر والأصفر والأبيض والأسود، هذا يتكلم بالانجليزية وذاك بالفرنسية وآخر بالعربية، هذا رافع يديه، وآخر ذارف دموعه على خدّيه.. فتذكرت يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم الزلزلة، يوم الصاخّة، يوم الطامّة، يوم يبعث من في القبور ويظهر المستور، والناس في هذا الموقف خائفون، فقلت: اللهم أمِّنا إذا خاف الناس…
الوقفة الثامنة: رأيت الناس صنفين: رابح وخاسر، حاج وسائح!
اللهم اجعلنا من الحاجين واغفر لنا أجمعين.




Aucun commentaire