البيئة من وجهة نظر إسلامية
قضية البيئة في العقيدة الإسلامية تبدأ من قضية الإنسان الوجودية الأولى المتمثلة في سر وجوده على سطح هذا الكوكب. فالإنسان في دين الإسلام وجوده مرتبط بامتحانه واختباره في فترة الحياة الدنيا المفضية إلى فترة الحياة الآخرة. ومعلوم في دين الإسلام أن فترة الحياة الدنيا المحدودة أو العاجلة هي فترة عمل وامتحان واختبار، بينما فترة الحياة الآخرة الأبدية أو الآجلة هي فترة جزاء بشقيه السعيد والشقي . وموضوع اختبار الإنسان في الحياة الدنيا هو الاستخلاف في الأرض أو في البيئة . ومعلوم أن اللفظة العربية » البيئة » أو » الباءة » أو » المبوأ » أو « المباءة » تدل على المحيط أو المنزل الذي يسكنه الإنسان ، وعليه فبيئة الإنسان هي كوكب الأرض . وهذه البيئة أعدها الله عز وجل وزينها لتكون مجال اختبار وامتحان الإنسان مصداقا لقوله تعالى : (( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا )) . فالله تعالى تعبد الإنسان باستخلافه في الأرض . والاستخلاف هو النزول أو إقامة اللاحق مقام السابق مصداقا لقوله تعالى : (( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم )) فأجيال البشر فوق سطح هذا الكوكب يخلف بعضها بعضا إلى أجل مسمى ، والغاية من ذلك هو اختبارهم في استخلافهم في الأرض أو في بيئتهم. والله عز وجل قيد الاستخلاف بالإصلاح لأن البيئة المستخلف فيها هي بيئة صالحة خلقت بدقة متناهية بعيدة عن صدفة أو عبث .
ولهذا لما أخبر الله عز وجل ملأه الأعلى من الملائكة الكرام بقراره استخلاف الإنسان في الأرض مع بيان طبيعته الميالة للفساد بحكم جبلته استغرب هذا الملأ الأعلى القرار الإلهي وهو ما نقله لنا الوحي في قوله تعالى : (( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك )) فالملائكة انطلقوا من طبيعتهم المسبحة ، وكانوا على علم بطبيعة الأرض المسبحة أيضا فاستغربوا وجود من لا يكون على طبيعة التسبيح فيها. وحقيقة التسبيح هو أنه تنزيه للخالق جل وعلا من كل نقص وعيب . فالخالق جل جلاله يخبرنا عن طبيعة البيئة المسبحة فيقول جل شأنه : (( يسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)) فالله تعالى هو الذي لقن الكون الذي توجد ضمنه بيئة الإنسان طرق التسبيح فهو القائل جل شأنه : (( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه )) فالطير الصافات وهي الباسطة أجنحتها في الفضاء تعبر بهذا البسط عن تسبيحها للخالق جل جلاله ، وبيان ذلك أنها تسبح وتطير في الفضاء باسطة أجنحتها لتبرهن على أن الصناعة التي صنعها الخالق لا خلل فيها ولا عيب وآية ذلك النجاح في الطيران . فهي بالطيران دون مشاكل ودون تعثر تنزه صنعة الخالق عن كل عيب ونقص وهذه هي دلالة التسبيح عند الطير الصافات . وعلى غرار الطير الصافات يسبح الكون بكل ما فيه من موجودات بما فيها بيئتنا الأرض بمن فيها وما فيها وما عليها . فتسبيح الكون عبارة عن خضوع واستسلام للنواميس والقوانين التي وضعها الخالق جل شأنه . وقد أشار الوحي الكريم إلى هذا الخضوع من الكون واستسلامه لإرادة خالقه جل في علاه ومن ذلك قوله تعالى : (( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها )) وقوله تعالى : (( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها )) وقوله تعالى أيضا : (( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ايتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين )). ولما اقتضت إرادة الله عز وجل أن يكون الكون بما فيه طائعا لله تعالى ، فإنه اشترط في استخلاف الإنسان في الأرض نفس الطاعة ونفس التسبيح بالطريقة التي تناسب طبيعة هذا الإنسان .
وتسبيح الإنسان لله تعالى يقتضي تنزيهه لصنعة خالقه في البيئة التي استخلفه فيها . فالله عز وجل متقن الصنعة لقوله جل جلاله : (( صنع الله الذي أتقن كل شيء )) فالإتقان صفة من صفات الله تعالى المثلى . ومن كانت صفته الإتقان كان الكمال هو طبيعة ذاته المقدسة . ومن ثم يكون تنزيه صنع الله تعالى هو تنزيه لذاته المقدسة . فمنزه الفعل يكون بالضرورة منزه الذات . وكل مخلوق يتخلف عن التسبيح أي عن التقديس يكون قد أنكر التنزيه في صفة الله تعالى وفي ذاته . ولما كان الأصل في صنع الله تعالى هو الإتقان فإن النتيجة هي صفة الصلاح في الكون إذ لا ينتج عن الإتقان إلا ما هو صالح ، ولهذا رفض الله تعالى الفساد مطلقا ، ورفض الفساد في الأرض بيئتنا فقال جل من قائل : (( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها )) فالأصل في الأرض أو في بيئتنا أنها خلقت صالحة وبإتقان ، ولا يمكن لمن يستخلف فيها أن يفسد صلاحها. والفساد في الأرض ليس طبيعيا وإنما هو طارىء عليها لقوله تعالى : (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )) . فالإنسان بحكم استعداده الفطري للفساد والإفساد ـ وهي طبيعة اقتضتها حكمة اختباره وامتحانه إذ لو كان استعداده قاصرا على الصلاح والإصلاح لما جاز أن يختبر ويمتحن ـ يؤثر بفساده على بيئته فيكون هو المتضرر الأول والأخير مع أنه المخلوق المكرم والمفضل لقوله تعالى : (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )). لقد كان من المفروض في مخلوق في درجة تكريم وتفضيل الإنسان أن يكون أسبق إلى الخضوع لله تعالى وإلى تسبيحه ، ولكنه مع الأسف الشديد خلاف ذلك كما وصفه الله عز وجل في قوله : (( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ))
فإذا ما كانت المخلوقات الجبارة من سماوات وأرض وجبال قد أبت حمل أمانة الاستخلاف فإن الإنسان الضعيف بالقياس إلى هذه المخلوقات الجبارة قبل حمل هذه الأمانة لطبيعته الظالمة الجاهلة . فهو الظلوم والجهول بصيغتي مبالغة لكثرة ظلمه وكثرة جهله . وظلمه عبارة عن محاولة وضعه الأمور في غير ما وضعها الله عز وجل ، ولجهله فهو يقع في الظلم . ومن ظلمه ظلم بيئته لأنه يجهلها فيتصرف فيها التصرف الظالم الذي قوامه تغيير نواميس البيئة ، لهذا يدعوه الله عز وجل في طول القرآن الكريم وعرضه لمعرفة بيئته حتى لا يظلمها ولا يخل بموازينها. إن بيئة الإنسان المتنوعة بثلث يابستها وثلاثة أرباع بحرها ، ويابستها بسهلها ووعرها وعذب مياهها وفراته، وشجرها ومخلوقاتها ، وبحرها بأجاحه وأسماكه وحيتانه ومخلوقاته العجيبة كلها مسبحة لله تعالى وملتزمة بنواميسه لا تتخلف عنها فلا الأجاج من الماء يطغى على العذب الفرات ، ولا السهل يستغني عن أوتاد الوعر ، ولا الفصول يسبق بعضها بعضا . وكل ذلك يعتبر منزل الإنسان في هذا الكون وبيئته ومصدر قوته ، وضمان عيشه وبقائه على قيد الحياة. يقول الله تعالى عن خلق هذه البيئة : (( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين )) . إن تجاهل مقتضيات هذه الآية الكريمة هو كفران بنعم المنعم جل جلاله . ومن كفران النعم سوء التصرف فيها ، وسوء الاستخلاف . وأفضل شكر للنعم هو استخدامها وفق إرادة المنعم جل جلاله . وأسوأ كفران هو الاستعانة بها على المعاصي والطغيان . ومن إرادته سبحانه عدم إفساد النعم ، وهو عدم إفساد بيئة هذه النعم التي لا يحصيها عد ولا يشكرها حمد . وإذا ما كانت البيئة على اختلاف مظاهرها تسبح بحمد ربها بمعنى لا تتمرد على نواميسه وقوانينه فالمخلوق الوحيد الناشز هو الإنسان الذي يشيع في هذه البيئة فسادا خلافا لإرادة الله عز وجل. وإشاعة الفساد في البيئة سببه متابعة الأهواء ومخالفة الخالق سبحانه . والأهواء يحركها الجهل ، والجهل يسبب الظلم ، والظلم فساد وإفساد .
والبيئة الصالحة بطبعها إنما يكون صلاحها ببقائها على طبيعتها ، ويكون فسادها بفساد الإنسان الذي يسلس القياد للأهواء فتفضي به إلى الفساد والإفساد .وإن فساد الإنسان في الأرض يثير غضب الخالق سبحانه ، ويحرك غيرته التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : » إن الله تعالى يغار وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه » لقد حرم الله عليه إفساد البيئة ، وهو يأتي هذا الفعل الشنيع ويثير غيرة خالقه سبحانه ومقته العظيم .
وأخيرا أقول جميل جدا أن يحتفل الناس بالأرض وبالبيئة في كل أصقاع العالم ، بما في ذلك بلاد الإسلام ، وجميل جدا أن تفضل البيئة في بعض بلاد الإسلام ويحتفى بها وتختار عواصمها كنماذج لبلاد لا زالت فيها البيئة بخير، وجميل جدا أن نظهر مظاهر الاحتفال المختلفة ببيئتنا ، ولكن لا أعتقد أن مظاهر الاحتفال الصورية والشكلية هي الغرض المطلوب من وراء الاحتفال بالأرض والبيئة في دين الإسلام ، إذ لا بد من احتفال يستلهم كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فما معنى أن تغرس شجيرات في مظاهر احتفالية في حين يمعن المحتفلون في الفساد والإفساد في الأرض ؟. ما قيمة إصلاح من خلال غرس شجيرة أو ما قيمة إصلاح من خلال جمع قمامة مقابل إفساد الاحتباس الحراري الذي يؤذي البيئة إذاية غير مسبوقة في تاريخ البشرية ؟. إن الذي يفسد البيئة بالأطنان ،و يحتفل بها بالقطمير يخادع نفسه ويخدعها وعليه يصدق قول الله عز وجل: (( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)) . أجل تدعي بعض دول العالم العظمى أنها تدافع عن البيئة وتشهد العالم والله تعالى على ما في قلبها وهي ألد خصم للبيئة تسعى في الأرض فسادا وتهلك الحرث والنسل .
فهذه الآلة الصناعية في البلاد العظمى تنفث عديمها وتفسد البئية جوا وبرا وبحرا. وهذه آلتها الحربية المدمرة تدك بلاد المسلمين في العراق وفي أفغانستان وفي باكستان وفي فلسطين وتهلك حرث ونسل المسلمين حقدا على عقيدة الإسلام . فكيف نصدق ادعاء هذه الدول الفاسدة المفسدة للبيئة بالبينة والبرهان وبشهادة البيئة التي تصدقنا الحديث ،ولا تكتم حديثا بحال أفصح وأبلغ من المقال . وما معنى أيضا أن يستمتع بعضنا بالبيئة في موسم ربيعي كهذا الذي نعيشه هذه الأيام في بيئة طبيعية جميلة وخلابة كطبيعة بلدنا المغرب الحبيب ، ويكون حالهم وسط الطبيعة المسبحة بحمد الله عز وجل بخرير مياهها العذبة ، وحفيف أغصان شجرها ووارف ظلها ، وشدو عصافيرها ، وهدير تلاطم موج بحارها …. هو اللحن الناشز خارج سنفونية الطبيعة المتناغمة والمتناسقة من خلال إفساد تسبيح الطبيعة بالمعاصي والآثام ، فيجلس بعض هؤلاء يعاقرون الخمر ،ويمارسون الفاحشة ، وهم يستمتعون بتغريد الطير المسبح وحفيف الشجر المسبح ، وخرير الماء المسبح ، وكل البيئة المسبحة ، يخالفون التسبيح بسوء الأدب مع الخالق تعالى الله عن سوء أدبهم ، ولا يرعون له تنزيها تنزه الله عن تجاسرهم . وعجبا لهم يسبح الطير والشجر والحجر… وهم لا يسبحون بل يفسدون في الأرض المسبحة لله تعالى . وإذا ما غادروا أماكن متعتهم في البيئة خلفوا وراءهم زبالة الخمور ، وزبالة الفاحشة تلوث طهر الطبيعة ، فتبدو الطبيعة المسبحة وقد لطختها آثار فسادهم في الأرض شاكية باكية ، ومقابل تسبيحها تتنزل عليهم اللعنات الموافية لفسادهم وإفسادهم. وقد يوثقون جرائمهم في الطبيعة بأفلام تسجيلية ،وصور يجعلونها من أغلى ذكرياتهم ، فيفخرون بخمورهم وبفواحشهم المسجلة والموثقة والشاهدة عليهم وعلى إصرارهم على الفساد والإفساد ، وقد يتألمون لفراق من شاركهم الفساد والإفساد ويترحمون على فساده وإفساده استخفافا برحمة الله عز وجل التي كتبها لعباده الصالحين ، وحرمها على المفسدين . يقول بعضهم هذه أغلى الذكريات في جلسة شراب وخمر وزنا ، وهذا النديم وهذا الخدن ، ولا يرى في البيئة الطبيعية المسبحة لله عز وجل والمحيطة به إلا مجرد ماخور وخمارة في طبيعة استغلها للفساد والإفساد دون خجل أو وجل .
إن الاحتفال بالأرض وبالبيئة في عقيدة الإسلام هو الانسجام بالتسبيح على الطريقة الموافقة للطبيعة البشرية مع سنفونية التسبيح في البيئة بكل مكوناتها كل بطريقة تسبيحه الخاصة التي لقنها له الله عز وجل ، وهي تدرك ولا تفقه . والحمد لله الذي تتم بنعمه الصالحات ثم الصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى عترته وآل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الخيرين والغر الميامين ، وعلى كل من تبعهم بإحسان وتسبيح إلى يوم الدين .
Aucun commentaire