دور المسجد في تربية المجتمع
التربية هي مطلب كل الأمم في كل زمان ومكان . و تتأثر التربية بالمعتقدات والثقافات ، وتأخذ أشكالها ، وتنحو نحو تحقيق أهدافها وغاياتها . والتربية تعني عملية توفير الظروف المناسبة للنمو البشري المادي والمعنوي . ففعل ربى في العربية يعني غذى تغذية مادية ليربو الجسم أي يزداد وينمو ، وتغذية روحية تعني تهذيب النفس لتزداد وتنمو أيضا .
فالنمو البشري يأخذ شكلين متوازيين شكل مادي وآخر روحي أو معنوي . وقد تقتصر بعض المعتقدات وبعض الثقافات على النمو المادي وحده ، مهملة النمو الروحي أو النفسي أو المعنوي ، وتكون بهذا تربيتها تربية مادية ليس غير . و فعل ربى باعتبار مادته اللغوية له صلة بفعل رب الذي يعني ساس ، وملك ، وأصلح ، وجمع ، وزاد ، ونمى . ومن هنا كان الرب هو السيد المالك الذي يسوس ويملك المربوب أي المملوك ، وكان هو المصلح والمتعهد للمربوب ، والذي يوفر له الظروف ليربو بمعنى لينمو ، لهذا يقال لزوج الأم الراب لأنه يتعهد بالتربية الربيب وهو ولد زوجته ، كما يقال لمن يتعهد الملاحين على ظهر السفينة الربان . والله عز وجل هو رب العالمين أي سيدهم الذي يسوسهم ويملكهم . والكون هو ربابته أي مملكته ، والخلق مربوبون أي مملوكون له . وهو الذي يربيهم أي يجعلهم ينمون ماديا وروحيا . والربوبة والربوبية هي ممارسة الرب بما يعنيه الرب من سياسة وملك وإصلاح وجمع إنماء . والتربية كما أسلفنا هي هدف كل المعتقدات والثقافات ، ولكنها تختلف في نوعيتها وأهدافها وغاياتها ، وإن كانت تتفق في توفير الظروف المناسبة لنمو من تستهدفهم . وقد تأتي أهدافها عكس ما تريده لخلل في طرائقها أو لمخالفتها النواميس التي جبل عليها الإنسان المربوب من طرف خالقه الرب . وتوكل كل المعتقدات والثقافات مهمة التربية لمؤسسات مختلفة . ومن المعلوم أن المؤسسات الدينية سواء تعلق الأمر بما يعرف بالديانات السماوية أو ما يعرف بالديانات الوضعية تعتبر التربية مهمتها الرئيسة خاصة فيما يتعلق بالتربية الروحية أو المعنوية . وحتى المجتمعات اللائكية أو العلمانية توكل مهمة التربية لمؤسساتها غير الدينية أو ما يسمى المؤسسات المدنية ، وتكون تربيتها المعنوية استمرارا وامتدادا لتربيتها المادية . وقد يظن البعض أن التربية المعنوية أو الروحية بالمفهوم الديني هي تربية نافلة أمام التربية المادية ، والحقيقة أن التربية الروحية هي التي توجه التربية المادية .
والمثال الواضح على ذلك أن التربية المعنوية في المجتمعات العلمانية أو اللائكية هي المتحكمة في التربية المادية ، ذلك أن إسقاط الدين من الحياة في هذه المجتمعات يجعل الإنسان العلماني أو اللائكي يفكر في النمو المادي تفكيرا مخالفا تماما لتفكير الإنسان المتدين . أجل يتفق الإنثنان الإنسان المتدين وغير المتدين في النمو المادي ، فكلاهما يصيب الطعام والشراب وكل الماديات لينمو ماديا ، ولكن غير المتدين يطلب الماديات لذاتها فتكون هدفا وغاية في حد ذاتها ، بينما هي وسيلة عند المتدين لغاية أخرى. ولهذا تختلف التربية في الدين الإسلامي عن غيرها في الديانات الأخرى سواء كانت سماوية اعتراها التحريف كاليهودية والنصرانية كما يعتقد المسلمون ، أو وضعية تواضع الناس عليها وهي غير موفقة كما يعتقد المسلمون أيضا ، أو في غير الديانات كما هو الحال بالنسبة للمجتمعات العلمانية واللائكية وهي كذلك غير موفقة في نظر المسلمين .فالتربية في المؤسسات الدينية اليهودية والنصرانية المحرفة على سبيل المثال تقوم على أساس اعتقاد فاسد مفاده أن الإنسان ليس مربوبا بل هو ابن الرب ـ تعالى الله عما يصفون ـ لهذا تتأثر تربية الإنسان اليهودي والنصراني بهذا الاعتقاد ،فينعكس ذلك على سلوكه ، فهو باعتبار اعتقاده الفاسد أنه ابن الرب لا يرضى بغير سياسة من ليس على دينه من الناس ،وملكهم جريا على ربوبية الرب الذي يحق له أن يملك ويسوس المربوبين . لهذا تقوم المؤسسات الدينية اليهودية والنصرانية على تربية أتباعها التربية الروحية أو المعنوية التي توافق الاعتقاد الفاسد بأبوة الرب للإنسان ، وبنوة الإنسان للرب .
وهذه التربية يترتب عنها السلوك غير السوي حيث تكرس الميز العنصري بين بني البشر ، وتقسم البشرية ذات الأصل الواحد إلى أرباب ومربوبين ، وتختلف بسبب ذلك أحوال الناس في ربابة أو ملكوت الله عز وجل . وعلى غرار التربية في الديانتين السماويتين اليهودية والنصرانية المحرفتين ، نجد التربية في الديانات الوضعية ، وفي المجتمعات العلمانية اللائكية تنحو نحو إقناع أتباعها بالاستعلاء على من ليس على اعتقادهم ، فتصيرهم أربابا يرغبون في سياسة غيرهم وامتلاكه .فالعلمانية أو اللائكية على سبيل المثال في زماننا هذا تروم سياسة وملك العالم بمن فيه لأنها تعتقد أن أتباعها جديرون بذلك. والتربية عند العلماني واللائكي هي تربية مادية خالصة ، فالنمو الذي يعنيه بالدرجة الأولى هو النمو المادي ، لهذا يكون نموه المعنوي استمرارا وتكريسا لنموه المادي . وعلى خلاف الديانات السماوية المحرفة والديانات الوضعية الضالة ، والعلمانية واللائكية تنحو التربية في الإسلام نحوا مخالفا حيث تتولى مؤسسة المسجد الدينية تربية الإنسان على أساس أنه مربوب لرب العالمين . ومربوبيته تلزمه بتربية روحية أو معنوية خاصة ، وهي تربية تتحكم في تربيته المادية . فقول رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم : » أدبني ربي فأحسن تأديبي » فيه إشارة واضحة للتهذيب ، ذلك أن التأديب هو التهذيب ، وهو عبارة عن تخليق أو رياضة على الأخلاق ، أو تعليم للأدب ، وإصلاح وتنقية وتصفية وتخليص مما يشين وتطهير مما يعيب . وكل ذلك عبارة عن تربية روحية ، فكأن الرسول الأعظم يقول : « رباني ربي فأحسن تربيتي « . وأحسن تربية يتلقاها الإنسان المسلم هي إقناعه بأنه مربوب الرب ، وليس ابن الرب ، ولا هو الرب كما هو اعتقاد الإنسان العلماني اللائكي الذي ينصب نفسه ربا من خلال اعتقاده المقصي لرب العالمين .
ولما كان الإسلام يقنع أتباعه بأنهم مربوبين لرب العالمين فإنه يسوسهم ويصلحهم ، ويربيهم التربية الروحية المتحكمة في التربية المادية . فالمسلم يتربى تربية مادية أي ينمو ماديا ، ولكن على ضوء التربية الروحية المتحكمة في تربيته المادية . فالتربية الروحية في الإسلام تحدد للمسلم كيفية تربيته ونموه المادي ، فلا يطعم ولا يشرب ، ولا يسكن ولا يلبس ولا يستهلك الماديات …. إلى غير ذلك مما يتطلبه نموه المادي إلا بتوجيه من تربيته الروحية . فعندما نجد التوجيه التربوي الإسلامي يعتبر أن النتفة من اللحم التي تنمو في جسم من كسب حرام النار أولى بها ، فإنه يربي المسلمين على تحري الكسب الحلال صيانة لكسب الغير. فالذي يربي جسمه أو ينميه برزق أو كسب غيره هو بمثابة من يقتطع قطعة أو نتفة من جسم غيره ، بمعنى يتسبب في تدمير جسم الغير بالاقتطاع منه ، ويكون بذلك ملك ما ليس له بحق أي أصبح ربا وغيره مربوبا له. والمسجد في الإسلام مؤسسة تربوية ، واسمه يدل على مكان عملية أو إجراء السجود ، والسجود هو انحناء وخضوع وميل وطأطأة للرأس تدل على الإقرار والاعتراف بالمربوبية لرب العالمين ، وتجنب الربوبية بأي شكل من الأشكال على الطريقة اليهودية أو النصرانية أو العلمانية اللائكية أو غيرها . فالمسجد يضطلع بتربية المسلمين وبكيفية دائمة ومتواصلة . فرفع الآذان يوميا خمس مرات عبارة عن نداء للتزود بالتربية الروحية يوميا بهذا الشكل المنظم تماما كما تحصل التربية المادية يوميا من خلال شكل الوجبات اليومية . فكما تحتاج الأجسام في الإسلام إلى غذاء يومي لتتربى وتنمو ماديا ، كذلك تحتاج الأرواح إلى غذاء روحي يوميا لتتربى وتنمو روحيا . والغذاء الروحي الذي تعتمده التربية الروحية في المؤسسة التربوية الدينية الإسلامية التي هي المسجد عبارة عن كلام الرب للمربوبين المتضمن للتوجيهات التي تتطلبها حياتهم . والتزود بهذا الغذاء يوميا ، عن طريق ما تشبه تناول جرعات الدواء بشكل منتظم يحدث التوازن النفسي للإنسان ليمارس الحياة بشقيها المادي والمعنوي بكيفية صحيحة ولكن بصفته مربوبا لا بصفته ربا . والغذاء الروحي الذي تحصل به التربية الروحية يتم عبر إجراء الصلاة ، وهي الإجراء الدال على الخضوع والانحناء المادي بما فيها من ركوع وسجود يحيلان على المربوبية لا على الربوبية .
وليس من قبيل الصدف أن يكون الغذاء ، وهو تلاوة القرآن المصاحبة لإجراءات الصلاة أو الخضوع سرا في صلوات النهار المبصر ، وجهرا في صلوات الليل المظلم المستوجب للسمع دون البصر . وليس من قبيل الصدف أن يكون المطلوب في الصلاة الخشوع ، وهو خضوع معنوي يصاحب الخضوع المادي المتمثل في الركوع والسجود إذ لا يجوز أن تخضع الجوارح ، ولا تخضع الروح المتحكمة فيها . وإصابة الخشوع لا تكون إلا باستيعاب كلام الله عز وجل المحدث للخشوع . فكلام الله عز وجل عبارة عن توجيهات للإنسان في مختلف أحواله في هذه الحياة ، وهو يحتاجه في كل وقت وحين ، ويتزود به خمس مرات في اليوم موزعة بين طرفي النهار وزلف الليل . ولما كان كلام الله عز وجل يحتاج إلى توضيح وشرح وبيان وتفسير شرع الله تعالى كل أسبوع نوعا من التربية الأسبوعية في المسجد ، وهي عبارة عن خطبة الجمعة أو كلام يتناول بالتفسير والتوضيح والتأويل كلام الله عز وجل الذي يتلى بالليل والنهار لتربية الإنسان .
وهكذا يضطلع المسجد باعتباره مؤسسة تربوية بتربية الإنسان التربية الروحية اللازمة يوميا وأسبوعيا ، وذلك من خلال الاحتكاك بكلام الله عز وجل يوميا ، ومن خلال الاحتكاك ببيان كلامه أسبوعيا.
وبقي أن أقول أخيرا إن الذين يضيقون ذرعا بالمؤسسة التربوية الإسلامية وهي المسجد إنما يعبرون عن ضيقهم من التربية الإسلامية الروحية لأن أنواعا ضالة من التربية تتوزعهم . وإن الذين يقولون كفى من بناء وتشييد المساجد إنما يقولون كفى من التربية الروحية الإسلامية لأنهم متخمون بأنواع أخرى من التربية ، والتي قد لا تعدو في بعض الأحيان التربية المادية التي تعد أجسادا بلا أرواح. وإن الذين لا يستفيدون شيئا من تربية المساجد الروحية شأنهم شأن من يتناول الأطعمة والأشربة ولكن جسمه لا يستفيد منها بسبب إسهال أو سوء هضم أو غير ذلك مما يحرم الجسم من الاستفادة مما يتناوله من أطعمة وأشربة . ولهذا جاء في كتاب الله عز وجل قوله : (( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )) فالصلاة كنوع من التربية لا تؤتي أكلها إذا لم تؤثر في من يمارسها كإجراء ، ويتلقاها كتربية . فالفاحش والمنكر في الحياة هو كل ما زاد عن حد المربوبية ، والناهي عنه هو الصلاة كإجراء تربوي .
ولقد أكد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة عندما قال : » من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له » بمعنى الذي يربى عن طريق الصلاة ، ولا يتربى أي لا ينمو روحيا فكأنه لا يصلي أصلا ، ولا يتناول حصته من الغذاء الروحي اليومي . وآخرا أقول إن المسجد مؤسسة تربوية بامتياز ، ولكن مع الأسف الشديد يريدها البعض مؤسسة معطلة لتعطيل التربية الروحية الضرورية للمربوبين . وما محاولة اليهود تغيير معالم المسجد الأقصى إلا محاولة للإجهاز على التربية الروحية التي يضطلع بها هذا المسجد إلى جانب المسجد الحرام والمسجد النبوي ، وهي المساجد الرموز لكل المساجد في بقاع الأرض التي هي ربابة أو ملكوت الرب جل جلاله .
فكل من عطل الدور التربوي للمسجد مهما كان نوع التعطيل فهو معطل للتربية الروحية الإسلامية ، وإن ادعى غير ذلك . فالتيارات الضالة في الإسلام من قبيل الرافضية والطرقية على سبيل المثال والتي تجعل أئمتها وشيوخها في مرتبة الأرباب يخضع لهم المربوبون تحرف التربية الروحية الإسلامية التي تخضع كل العالمين لرب واحد هو الله جل جلاله ، وتنحو بها نحو تربية الديانات المحرفة أو نحو التربية العلمانية واللائكية التي تجعل المربوبين أربابا من دون الله عز وجل . فكل عقيدة تنتسب للإسلام ، ولكنها تربي أتباعها على اتخاذ أرباب من البشر أئمة كانوا أو الشيوخا أو أولياء فقهاء هي عقيدة تربي هؤلاء الأتباع التربية الفاسدة التي لا تقل ضررا عن تربية المحرف من الديانات أو الوضعي منها أو تربية العلمانية واللائكية المقصية أو المعطلة للدين .
1 Comment
أرجو أن تنشروا هذا التعليق أو على الأقل تعطونه للقائمين على الشأن الديني في المدينة:
إن حديث الأستاذ الشركي عن دور المساجد في التربية يظل حديثا نظريا أمام ما نراه ونسمعه في مساجدنا، ما نراه ونعايشه من سلوكات بعض المحسوبين على عمار بيوت الله، الذين صار لهم رأي في الخطبة وفي الجمع وفي الآيات التي ينبغي أن يقرأ بها الإمام. قال لي أحدهم يوما إن هذا الدرس في السيرة الذي يلقيه الخطيب قبل خطبتي الجمعة ينبغي أن يتوقف. قلت له متعجبا ولم هل يقع صاحبه في أخطاء؟ قال لا قلت هل تريد أن يأتي غيره ممن تعرفهم ليلقوا هذا الدرس؟ قال لا قلت ولم تريده أن يتوقف قال لي بالحرف هكذا قال لي الشيطان ووالله ليتوقف ولو بذلت كل ما أملك. وفعلا توقف الدرس ونقل الخطيب الى مسجد آخر. وتقلص عدد المصلين في هذا المسجد مما يفوق الثلاثة آلاف الى بضع عشرات. والغريب أن القائمين على الشأن الديني يعرفون هذا الأمر ولكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء العمل بقوله تعالى » إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا » في مسجد آخر فتح منذ مدة وجيزة تناوب على الخطبة فيه عدد من الخطباء بمعدل واحد في الشهر وهو رقم قياسي لم يشهد التاريخ مثله، لسبب واحد أن أحد المتطفلين على ما يسمى اللجنة ينتقل في كل جمعة الى المجلس العلمي بتقرير مظلم عما قاله الخطيب أو حتى ما لبسه أو حتى نوع العطر الذي يستعمله. والغريب أن المسؤولين هناك يأخذون كلامه على أنه وحي يوحى وأشهد الله أنه لا يقول من الحق كلمة. وفي جهة أخرى خطيب شاب استطاع أن يتعمق في فهم هموم الشباب ويضع أيديهم على الحلول الإسلامية لكن واحدا من المتطفلين لم يعجبه هذا الأمر فظل يتنقل الى المجلس صباح مساء حتى ترك الخطيب المسجد وجيء بخطيب آخر علمهم أن الذي لايحمد الله على نعمه يفقدها ويتمنى أن يشم رائحتها فقط. نماذج كثير يضيق المقام عن سردها، لكني في كل مرة ألاحظ أمرا مهما: إن القائمين على الشأن الديني في المدينة بإمكانهم رد الاعتبار للمسجد بغلق الباب في وجه هؤلاء الفتانين، وبإعفاء بعض الأئمة الذين أثبتت التجارب أنهم لا يصلحون لهذه المهمة فالإمام الذي طرد من ثمانية أو تسعة مساجد لا نحتاج لمن يقول لنا إنه لا يصلح. والخطيب الذي يقف على منبر في مسجد واسع ذي موقع هام ولا يزيد عدد المصلين معه على بضع عشرات لا نحتاج أيضا لمن يقول لنا إنه لا يصلح. وهذه الشرذمة القابعة في المجلس من غير دعوة ولا سبب تذم هذا وتنقص من قيمة هذا وهي عاجزة عن إلقاء درس بله خطبة، لا نحتاج لمن يقول لنا إنه مفسدون.