دلالة عبادة الصيام
من المعلوم أن الغاية من وجود الإنسان فوق سطح كوكب الأرض هو عبادة خالقه الذي تفضل عليه بنعم لا يحصيه عد ولا يشكرها حمد مصداقا لقوله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )) فهذه الآية الكريمة تحدد الغاية من وجود الإنسان المسبوق في الوجود بالجان، وهي عبادة الخالق جل جلاله. وما ذكر الله تعالى بعد ذكر الغاية من وجود الخلق الرزق إلا لينفي غاية أخرى مع غاية العبادة ، فضلا عن تحديد دلالة العبادة التي لا تعني استفادة الخالق من المخلوق بل العكس هو الصحيح . فقوله تعالى (( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون )) يعني أن العبادة المطلوبة منهم هي عبارة عن شكر النعم المتمثلة في الرزق سواء تعلق الأمر بالرزق المادي أم بالرزق المعنوي. وشكر النعم إنما يكون باستعمالها وفق إرادة المنعم سبحانه ، لأن من تصرف في النعم بخلاف إرادة المنعم لم يكن شاكرا ولا عابدا. وقوله تعالى : (( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )) تأكيد لغنى المنعم وفقر المنعم عليهم ، وقد وردت صفة الرزاق بصيغة مبالغة لتدل على أنه سبحانه وتعالى خالق الأرزاق وموصلها إلى الخلق من خلال خلق أسباب إيصالها إليهم. ولا يقدر على ذلك إلا ذو القوة المتين وهي القدرة التامة مع المتانة أي الشدة.
فخلق الأرزاق المادية والمعنوية وخلق أسباب إيصالها إلى المخلوقات يحتاج إلى قدرة قوية ومتينة .
ولما كانت الغاية من وجود الإنسان هي العبادة ، وهي شكر النعم بالطاعة والخضوع لإرادة الله عز وجل في التعامل مع هذه النعم فقد أوصى الخالق سبحانه خلقه بالتقوى ، وهي الخوف منه ومن زوال نعمه ، والذي يكون دافعا للعمل بطاعته. والله تعالى ينبه المخلوقات إلى أن الطاعة والتقوى هي لصالحهم ، لأن انتفاء الطاعة والتقوى هو تعريض مصالحهم للزوال والضياع ، لهذا يقول جل من قائل : ((يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم )) فالعبادة وهي شكر النعم تكون سببا في صيانة هذه النعم. ففارش الأرض للخلق ، وباني السماء فوقها ، ومنزل الماء منها لإخراج الثمرات التي هي رزق العباد لا يستفيد شيئا من عبادة العباد له ،وإنما العباد هم المستفيدون ذلك أنهم بقدر شكرهم للنعم يحافظون عليها. وغير الشاكر للنعم حاله حال الزاهد فيها ،وهو في أمس الحاجة إليها. والنعم إذا زهد فيها كان ذلك بمثابة استغناء عنها ، وحق زوالها بسبب الاستغناء عنها . ولهذا قال الله تعالى : (( فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون )) فهذه الآية الكريمة تؤكد أن العبادة هي شكر النعم ، وأن شكر النعم هو التصرف فيها بما يرضي المنعم ، وهو ما عبرت عنه لفظة ((حلالا طيبا)) إذ قد يكون التصرف في النعم غير حلال ولا طيب. وقد أكد الله تعالى أن عدم شكر النعم يؤدي إلى زوالها فقال جل من قائل : (( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )) فالتغيير المقصود ههنا هو تغيير زوال النعم .
والآية جاءت في سياق الحديث عن آل فرعون وأمثالهم وهم نماذج الخلق الذي لا يشكر النعم ، فقبل هذه الآية مباشرة يقول المولى جل شأنه : (( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب )). إذن فكفر النعم هو سبب زوالها ، وشكر النعم هو عبادة الله ، وعبادة الله هي التقوى وهي الخوف من زوال النعم.
ومن لطف الله تعالى بالخلق أن هيأ لهم ظروف وأسباب التقوى ، فخلق الإنسان وصممه للتقوى ولنقيضها لما اقتضت إرادة الله وحكمته اختباره وامتحانه في هذه الحياة قبل نعم الحياة الأخرى أو نقمها لهذا قال الله تعالى : (( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها )) فتسوية الخلق كانت من خلال إعداد النفس البشرية للتقوى ولنقيضها الفجور، والفجور هو الميل ، فالنفس إما عابدة أي شاكرة لله تعالى وإما مائلة عن العبادة أي عن الشكر إلى الكفر.
ومن أجل ترسيخ التقوى في النفس البشرية هيأ الله تعالى لها إلى جانب الاستعداد الفطري الظروف والأسباب المناسبة حيث جعل بعض العبادات ظروفا مناسبة لتنمية أرصدة التقوى كما هو حال عبادة الصيام التي قال فيها الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أيام معدودات )). فعبادة الصيام وهي كيفية من كيفيات شكر النعم في أيام معدودات تساعد الإنسان المؤمن على رفع رصيده من التقوى لما لهذه العبادة من خصوصيات ، فهي العبادة المتميزة بكونها عبادة باطن مقرها منطقة القلب المحرمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى. فكل العبادات ميزتها الظاهر حيث يطلع الخلق عليها بشكل من الأشكال إلا عبادة الصيام فهي عبادة باطن إذ لا يستطيع الخلق الاطلاع عليها ، فالصائم لا يعلم صومه كما تعلم باقي عباداته من صلاة وزكاة وحج. ولما كانت عبادة الصوم باطنية كانت التقوى المحصلة بها أفضل التقوى ذلك أن الإنسان قد يمارس عبادات الظاهر وهو يخادع بها غيره من الخلق مما يسمى رياء، ولكنه لا يمكن أن يخادع نفسه في عبادة الصوم الباطنة لهذا حث الله تعالى على طلب التقوى من خلال عبادة الصوم في أيام معدودات فقال : (( لعلكم تتقون أياما معدودات )) ولعل تفيد ترجي الأمر المحبوب أي لعلكم تتعلمون التقوى من خلال عبادة الصيام في باقي العبادات والمعاملات. ومما يؤكد أن عبادة الصيام وهي عبادة الباطن أفضل عند الله عز وجل من عبادات الظاهر هو تميزها في الأجر إذ جاء في الحديث : » كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي » فالعبادات تقاس بقدر الأجور ، وقد خص الله تعالى عبادة الصوم بأجر يفوق أجور عبادات الظاهر لما في عبادة الباطن من صدق وإخلاص خلاف ما قد يعتري عبادات الظاهر من رياء.
والذي يتقي ربه في الباطن يكون أقدر على التقوى في الظاهر. ومن أطاع ربه سبحانه في ترك ما يباح له من طعام وشراب و وقاع طيلة أشهر السنة خلال أيام رمضان المعدودات كان أقدر على طاعته في ترك ما حرم عليه تحريما أبديا من طعام وشراب و وقاع وغير ذلك من المحرمات. ولهذا كانت التقوى الحاصلة بعبادة الصيام أفضل التقوى لأنها تقوى الباطن، وعنها تتفرع كل أنواع تقوى الظاهر. ولهذا يربط الله تعالى بين تقوى الباطن وتقوى الظاهر كما جاء في الحديث الشريف : » من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه » والزور هو الباطل بكل أنواعه ، والذي يطيع ربه في الإمساك عن الطعام والشراب ، ولا يطيعه في الإمساك عن الباطل قولا وفعلا لا ينفعه إمساكه عن الطعام والشراب في شيء ، وهو لا يدرك دلالة طاعة الصيام ، ودينه فيه انفصام حيث يؤمن بطاعة ويكفر بأخرى لهذا استغنى الله عز وجل عن طاعته في ترك الطعام والشراب كما استغنى هو عن طاعة الله تعالى في ترك قول الزور والعمل به.
ومن المعلوم أن طبيعة الإنسان هي الخطيئة المتواصلة بالليل والنهار. وتراكم الخطايا على الإنسان بفعل تراخي الزمن يجعلها عظيمة ، ومن الصعب التخلص منها حتى أن ملء الأرض ذهبا لا يخلصه منها لقوله تعالى : ((فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به )) فالكافر بنعم الله تعالى وغير الشاكر لها وهو من تراكمت عليه ذنوب كفران النعم لا ينفعه رصيد ملء الأرض ذهبا كفدية يفتدي بها .
ورحمة من الله الرحمان الرحيم ورأفة منه بالعباد تعهد وتكفل بإسقاط الذنوب والمعاصي والخطايا عن عباده بمناسبة عبادة الصيام حيث جاء في الحديث : » من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » والمتقدم من الذنب قد يكون ما انصرف من عمر الإنسان ومنذ بلوغه سن التكليف مما يعني تراكم الخطايا بشكل كبير، واستحالة التخلص منها بطريقة من الطرق إلا برحمة الله عز وجل في شهر رمضان المعظم. والأكياس العقلاء هم الذين يهشون لاستقبال رمضان بالحفاوة الشرعية اللازمة من حسن إمساك وقيام وذكر وتلاوة للقرآن الكريم ، واقتناص لفعل الخيرات لأنه فرصة السنة للتخلص مما تقدم من الخطايا ، وهي فرصة لا يبلغها إلا ذو حظ عظيم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :
» اللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان » فشعبان شهر تعرض فيه الأعمال على الله عز وجل لهذا سأل النبي الكريم ربه البركة فيه أي الزيادة في أجور الأعمال المعروضة ، وشهر رمضان هو شهر المغفرة لهذا تمنى الرسول الأعظم صلوات الله عليه أن يبلغه الله تعالى شهر المغفرة للاستفادة منها. والعجزة من الناس الذين تضيع منهم فرصة المغفرة خصوصا وأن الله تعالى هيأ لها الأسباب كما جاء في الحديث : » إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين » وتأويل هذا الحديث ـ والله ورسوله أعلم ـ أن الملتزم بعبادة الصيام حق الالتزام يكون شأنه شأن من صفد بداخله شيطانه الذي يجري منه مجرى الدم إذ لا يصدر عنه إلا الخير وهو في حال عبادة الصيام ، لهذا يكون كمن فتح أبواب الجنة بفعل الخيرات ،وغلق أبواب النار بترك الشرور.
ومن تدرب على تصفيد شيطانه وإغلاق أبواب ناره بترك الشر، وتفتيح أبواب جنته بفعل الخير في أيام معدودات اكتسب هذه العادة وكان أقدر عليها في كل أيام دهره حتى يلقى ربه راضيا مرضيا .
1 Comment
lah yjazik bekhir .ramadan karim .