من أجل إصلاح فكر إدكار موران (Edgar Morin) Le courrier de l’Unesco. Fév. 1996.

-1-
إلى حدود منتصف القرن العشرين، كانت أغلب العلوم تعتمدفي معرفتها على التخصص والتجريد، أي كانت تقلص من معرفة الكل وتعطي أهمية بالغة لمعرفة الأجزاء المكونة له (وكان نظام الكل لا يأتي بخصائص جديدة مقارنة مع الأجزاء، كل على حدة). وكان المفهوم الرئيسي للعلوم يختزل في مفهوم الجبرية. بمعنى حجب المجازفة والتجديد، وكان يختزل كذلك في تطبيق المنطق الآلي، أي منطق الآلة الاصطناعية على مشاكل الحياة والمشاكل الاجتماعية.
صحيح أنه من واجب المعرفة أن تستعمل المجرد، لكن من الوجب عليها أيضا أن تنبني بالرجوع إلى السياق، حيث يتم تجنيد ما يعرفه العارف عن العالم. إن فهم معطيات خاصة، لا يمكنه أن يكون سديدا إلا عند من يهتم وينمي ذكاءه العام، والذي يجند معارفه العامة أمام كل حالة خاصة. لقد كان مارسيل ماوس يقول: "يجب تركيب الكل من جديد". صحيح أنه من المستحيل معرفة كل شيء عن العالم، وكما أنه من المستحيل أيضا التمكن من متغيراته متعددة الأشكال، لكن رغم صعوبتها، فإنه من الضروري محاولة معرفة مشاكل- حلول العالم وإلا تسود الغباوة المعرفية. هذا كله لأن سياق كل معرفة سياسية أو اقتصادية أو أنتروبولوجية أو بيئية، أصبح اليوم هو العالم نفسه. إن العهد الكوكبي يفرض أن يوضع كل شيء في السياق الكوكبي، ومعرفة العالم كعالم، أصبحت ضرورة ثقافية وحيوية في نفس الوقت. ومشكل كل إنسان هو كيفية الحصول على منفذ المعلومات حول العالم وكيفية التمكن من وصلها وتنظيمها. لكن من أجل وصلها وتنظيمها، لابد من إصلاح فكري.
لا بد من جهة أن تتم عملية تكميل الفكر الذي يفرق، بالفكر الذي يربط. إن كلمة "معقد" تعني "ما هو منسوجا". فالفكر المعقد هو فكر يصبو في نفس الوقت إلى التمييز – لكن دون انفصام – وإلى الربء ومن جهة أخرى لا بد من معالجة التردد والحيرة. إن دوغمائية الجبرية الكونية قد سقطت. إن الكون لا يرضخ تحت الملكوت المطلق للنظام. إنه لعب ورهان جدلي (علاقة متعارضة ومتنافسة ومتكاملة في نفس الوقت) بين النظام والفوضى والتنظيم.
وهكذا فإن قصد التعقد، من جهة، فهو الربط (بالرجوع إلى السياق والشمولية) ومن جهة أخرى، هو رفع تحدي التردد والحيرة. كيف يتم ذلك؟
النظريات الثلاث
زيادة على هذه النظريات الثلاث، هناك تطورات المفاهيم الناتجة عن التظيم الذاتي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أربعة أسماء:
فون نيومان – فون فورستر – أطلان – بريكوجين.
في نظريته الخاصة بالآليات المنظمة ذاتيا، فإن نيومان طرح على نفسه السؤال المتعلق بالفرق الكائن بين الآلات الاصطناعية، المصنوعة بطريقة جيدة، وجد متطورة، لكنها تتعرض للإتلاف بمجرد ما تبتدئ الآلة في الاشتغال، وعلى العكس، فإن الآلات الحية، مكونة من عناصر غير موثوق بها، كالبروتينات، التي تتعرض للإتلاف بدون انقطاع، لكن لهذه الآلات قدرة غريبة على النمو والتوالد والتجديد الذاتي، وذلك باستبدال الجزئيات التي تعرضت للإتلاف بأخريات جديدة، والخلايا الميتة بأخريات جديدة أيضا. ثم أنه ليس بإمكان الآلة الاصطناعية أن تصلح نفسها، عكس الآلة الحية التي هي في تجديد دائم، اعتمادا على خلاياها الميتة. وهكذا يصح عليها ما جاء في قولة هرقليت: "تحيا من الموت وتموت من الحياة".
وما جاء به فورستر هو اكتشافه لمبدإ "النظام" الناتج عن الصوت. فإذا تم تحريك علبة بها كعاب ذات وجهين ممغنطين، مطروحة بشكل فوضوي، نلاحظ أن هذه الكعاب تشكل عفويا مجموعة متجانسة. وهكذا لن نكون قد احتجنا إلا إلى مبدإ واحد من مبادئ النظام (المغنطة) وإلى طاقة غير منظمة لتشكيل تنظيم منظم. وبهذه الطريقة نقف إذن على تجربة خلق النظام من الفوضى.
بالنسبة لأطلان، فقد صور نظرية "الصدفة المنظمة". نجد مرة أخرى جدلية النظام / (الفوضى)، وحسب بعض الظروف (الصدفة) تمكن بعض مبادئ النظام من تشكيل أنوية، ثم ذرات، ومجرات ونجوم. كما نجد أيضا هذه الجدلية عند ظهور الحياة، عبر التقاء جزئيات كبيرة، داخل حلقة ذات توالد ذاتي، وتصبح في نهاية المطاف تنظيما ذاتيا حيا، وتحت أشكال مختلفة. إن الجدلية الموجودة بين النظام والفوضى والتنظيم، عبر عدة تفاعلات داخلية، توجد دائما في حركية داخل عوالم الفزياء والبيولوجيا الإنسانية.
أما بريكوجين، فقد أدخل بطرقة أخرى فكرة التنظيم، ابتداء من الفوضى. في مثال دوامات برنارد، نشاهد كيف تتشكل بنيات منسجمة وكيف تعتمد ذاتيا على الحفاظ على نفسها، ابتداء من درجة معينة للحركة من دون أن تصل إلى الدرجة العليا الموالية. إن هذه التنظيمات في حاجة إلى تغذية طاقوية، وفي حاجة إلى استهلاك وإلى "نشر" الطاقة للحفاظ على نفسها. أما فيما يخص الكائن الحي، فله كامل الحرية كي يأخذ الطاقة من محيطه، كما بإمكانه أيضا استخراج معلومات من المحيط وإدماجها في التنظيم. هذا ما سميته بالتنظيم البيئي الذاتي.
إن فكر التعقد يظهر إذن وكأنه بناية ذات عدة طوابق. بحيث الأساس يتكون من النظريات الثلاث (الإعلام، علم التوجيه والنسق)، ويحتوي على الآلات الضرورية من أجل نظرية التنظيم. وفي الطابق الثاني نجد أفكار كل من نيومان وفورستر وأطلان وبريكوجين حول التنظيم الذاتي. وزيادة على هذه البناية أردت أن أستحضر عناصر أخرى، خاصة المبادئ الثلاثة: مبدأ الجدلية ومبدأ الرجعة ومبدأ الكل في الجزء.(يتبع)
Aucun commentaire