Home»International»الرمز والدلالة في : عناكب من دم المكان

الرمز والدلالة في : عناكب من دم المكان

1
Shares
PinterestGoogle+

الدكتور عبد السلام المساوي من الشعراء الذين ولدوا وفي فمهم ملاعق من أدب. رأى النور في قرية (أيلة) ، تلك التي أيقظت فيه الإحساس بالإبداع حتى اليوم. لم يكن أحد يعرف حينها أن (منجما) من الشعر يجثم في رحم امرأة اسمها فاطمة. وجاءت ولادته موالا تغنت به نساء (أيلة) فرحا بالمولود الجديد. فكانت البداية حرفا، ثم قصيدة ومجازا، ومن ثم أول ( خطاب إلى قريتي). لم يعرف " الباب الكبير" يومها كم مرة فتح؟. ولا أول من فتحه ، أو آخر من أغلقه؟. انبهرت الدار المسيجة بالزغاريد الأصيلة ، المنبعثة من أفواه نساء نصف أسنانهن تآكلت ، حرصن على إرضاء نخوة التقاليد البدوية. ( أيلة) يعرفها سكان القبائل ، كما يعرفون أسماؤهم، قرية صغيرة لا تبعد كثيرا عن ضفاف وادي" ورغة ". تنعم بطبيعة جذابة تنطق شعرا بخضرتها الدائمة ، وشلالاتها المتدفقة. الكروم تعانق أشجار (الدردار)، الصفصاف متراص حول السواقي ، أم الحسن تحاكي محمد عبد الوهاب ، وتجهد نفسها لتحدي صوت فيروز. مشهد شاعري ساحر، أو مقطع من قصيدة جملية لا يتصوره إلا خيال واسع ، أو أبناء (أيلة) قبل أن يزحف الجفاف في السنين الأخيرة ، وتفتقد (أم الحسن) إلى الأبد. يومها كان شاب وسيم ذو بنية هشة ، ينقش اسمه حرفا حرفا دون أن يلتفت إليه أحد، ليصبح عاشقا ثم شاعرا، فالشعر عشق للحياة وللناس . ومن لم يصدق ، فليسأل (أشجار التين) أو (الدار الكبيرة)، فوراء أبوابها الموصدة ، أسرار الشاعر وذكرياته التي يحرص على زيارتها كل صيف ، فيختلي بأمكنة تختزل مسافات طويلة ، ليتذكر أزمنة تلازم ذاكرته ، وتوحي له بأشياء قد لا يفهمها القارئ أحيانا!.
تخطى المساوي كل المحطات الصعبة بنجاح ، وأصبح عضوا في اتحاد كتاب المغرب، ثم في بيت الشعر المغربي ، وشاعرا مرموقا قبل كل شيء. ألف أكثر من ديوان ، ودراسة نقدية مهمة (البنيات الدالة في شعر أمل دنقل) أثارت انتباه وزارة المعارف في مصر، فاستدعته أكثر من مرة لحضور تخليد ذكرى وفاة الشاعر الكبير، الذي اقترن اسمه بقصيدته الخالدة (لا تصالح). وذلك ضمن فعاليات أدبية رائدة على مستوى العالم العربي ، كمحمود درويش، جمال الغيطاني وغيرهم. قبل أن يضيف إلى أعماله السابقة مجموعته القصصية (عناكب من دم المكان). حين تقرأ المجموعة القصصية ، تختلط عليك الأمور، وتحتار هل أنت أمام نصوص نثرية أم قطع شعرية؟. إذ بإحساسه الرهيف المتأصل فيه كشاعر، ومشاعره الجياشة التي جعلت منه شاعرا بالفطرة ، يصعب الفرز بين الشعر والنثر في كتاباته. فالكتابة بالنسبة للمساوي قضية مصيرية ، وضعته أمام سؤال محرج : هل تختار أن تكون شاعرا أم قاصا ، مادمت قد اخترت لنفسك أن تكون أديبا ؟. ولم يدم تردده كثيرا، لأن القدر قد اختار له أن يكون شاعرا. ودخل إلى عالم الشعرما يقارب ثلاثة عقود متسلحا بإحساسه الرقيق ، وبلغته التي تطاوعه كأنامله. لكنه يفاجئ الجميع بكتاباته القصصية من حين لآخر ، وكانت المفاجأة أكبر حين "صدم" الذين راهنوا على أنه سوف لن ينجح في تجربته القصصية الجديدة. ليصدر مجموعته القصصية الأولى" عناكب من دم المكان". وهي تضم نصوصا كلها اختزال لمسافات زمنية متباعدة ، يحكيها لنا المساوي على لسان أمه باعتبارها ساردة وبطله في نفس الوقت، كما جاء في عبارة الإهداء التي تتصدر المجموعة ، منها ما عايشها ككاتب ومؤرخ في نفس الوقت. تتابع الأحداث في الزمان بين نهاية الاستعمار، وبداية الاستقلال وما بعده. والمكان هو (دورا أيلة). فتحيلنا لمرحلة مر منها المغرب عموما ، وعادات تكاد تكون متشابهة لحد الاستنساخ ، تجدها في كثير من أنحاء المغرب ، ووصف لشخصيات ترمز للطموح الشارد ، والأمل الذي خان الكثيرين من شباب مغرب ما بعد الاستقلال ، فاستسلموا لواقع كله مرارة. النصوص لا تخلو أيضا من التلميح بشكل محتشم لسيرته الذاتية ، وحنين جارف لأيام (العز) في دار انهارت تماما ، ولم يبق منها إلا( الباب الكبير) وكثير من الصور المنتصبة أمام القارئ ، وهو الباب ذاته الذي خصص له نصا مستقلا يحمل عنوان : " بابنا على بيت غريب". ، حيث جاء فيه :
"لا أعرف الآن، من كان آخر الخارجين من هذا الباب
قبل أن ينغلق على صوت موته…".
هناك ، رأيته ينفتح وينغلق بلا معنى…
كيف تجد نفسك أيها الباب ، وأنت مسمر على بيت غريب؟
إلى أن يختم النص على إيقاع شاعري جميل فيقول :
لك أيها الباب كل الجنازات السرية والمعلنة…
لك نحيبي حبرا مسفوحا على مقام النقد
لك قصيدي الذي لم أكتب ، وصمت الكلام… ( ص:25)
والحقيقة أن الشاعر- القاص يفتح شوارع وأزقة للقارئ يسهل الدخول منها وإليها، لكن يصعب الخروج منها. فالشهية للقراءة تسرق الذاكرة ، وتجبرها على الالتصاق بالنصوص. وباحترافية كبيرة، وأسلوب شاعري جميل ، ينتقل بنا خلسة عبر أحداث شهد تها (أيلة) مع استحضار لشخصيات أرخت لهذا (الدوار المارد)، وصور تساعد على استرجاع الماضي ، إلى أيام اخترقت جسد الكاتب ، وكان لها الحسم في تكوينه الشاعري ، فارتمى المساوي مستسلما في أحضان الشعر للمرة الأخيرة، دون أن يلتفت إلى الوراء. ليتيه منذ ذلك اليوم ، وسط غابة من القصائد الجميلة.
لكنه يظهر فجأة كقاص من النوع الجيد ، يسترجع لحظات العشق المدفون في دواخله. والذي لم ولن ينساه أبدا، ولو على سبيل الذكرى ، لأن هذا النص بالذات، أبدع فيه المساوي، وأخرجنا عن المألوف في الكتابة القصصية :
(فعلامتها تشعل أفرانا كبحتها السنوات الكثيرة….هي الوحيدة زر التذكار) ص:65.
في أشارة إلى أن الحبيبة الغائبة الحاضرة. وتبقى قراءة هذه المجموعة القصصية، فسحة شاعرية جميلة لتنوع مواضيعها، ولغتها التي يستعص تصنيفها، لأنها بكل بساطة تجمع بين رقة الشعر ونرجسيته ، وفتنة الأسلوب الممتع في الكتابة. بل تميل إلى عذوبة الشعر بكل مكوناته. وفي هذا الإطار، تعترضنا مجموعة من المقاطع الشعرية التي تخترق النصوص ، نختار منها على سبيل المثال :
يا مواويل الحصاد الحزينة
هل تذكرين فرسه المتجول بين الغاطيات
وجرابه الملأى بالجوز، والزبيب لتحلية المسافات؟
( ص: 42. أقواس الألم)
نعود لنص ( اللوح المختوم) لنجد الوديان المنزلقة من جبال مدببة ، تنساب بينها موسيقى (الطقطوقة الجبلية) حيث الكتاتيب المتخمة بالعادات الوفية للتراث. فيختم الصبي رحلته بالحصول على ( البقرة الصغيرة)، وهي ( ليست حيوانا على كل حال…) ولكن ( بقرة رمزية علامتها : لوح مستحم في بحيرة البيض المكسر) ص:27. وهنا يذكرنا الكاتب – الشاعر بعادات متأصلة وقديمة في منطقة (جبالة)، وهي حفل يقام للطالب (الفقيه) حين يحفظ نصف القرآن( أي30 حزبا) وبعدها يأتي دور( البقرة الكبيرة) مع ختم القرآن، وحفظ الستين حزبا بكاملها. ثم فجأة يرجع بنا المساوي إلى طبيعته الأصلية كشاعر، فيقول :
صبر على بستان التين والزيتون
صبر على السنين المائلة
رغم فرح الأعياد…..(ص: 28. نفس النص)
لذلك تبقى هذه المجموعة في شموليتها نثرا وشعرا، أشبه بديوان شعر، وهو ما عودنا عليه الشاعر المجدد، والمبدع الدكتور عبد السلام المساوي ، أهلته ليكون شاعرا متميزا، ويفوز بأكثر من جائزة على المستوى الوطني والعربي . فهو بهذه النصوص التي تجعلنا أمام فتنة الكتابة وسحرها، يكون قد أضاف للأدب فصلا جديدا، جديرا بالمتابعة والقراءة ، يجمع الشعر بالنثر. كما أنه بذلك أيضا، يكون قد أثرى الخزانة المغربية والعربية بكتاب اسمه ( عناكب من دم المكان).
هوامش :
أيلة : قرية صغيرة ، بإقليم تاونات شمال مدينة فاس المغربية
ورغة : نهر من أكبر أنهار المغرب، بني عليه أكبر سدود المغرب وإفريقيا بعد سد أسوان
الطقطوقة الجبلية : أغاني جبلية ذات موسيقى و إيقاع خاص بالمنطقة العربية من جبال الريف بالمغرب
فاس/ المغرب

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *