أروع البرامج التربوية في تاريخ الحركة الإسلامية 7/8
سبق وقلنا إن الطور الأول انتهى بطريقة أو صلت الفرد الخاضع للتربية إلى الطور الثاني بشكل مطرد ومنسجم يسوق الفرد سوقا في اتجاه باقي الأطوار. وإذا وصل الفرد إلى معرفة العمل المنظم، وإذا علمنا أن العمل المنظم وجد أصلا لينظم شؤون الدعوة إلى الله، فلابد إذن أن يشمل الطور الثاني في هدفه فقه الدعوة. وفقه الدعوة لا يمكن أن يكون في معزل عن فقه الواقع، ولذلك جاءت المرحلة الثانية من الطور لتجعل فقه الواقع هدفا لها حتى تكتمل الرؤية والمعرفة عند الفرد فيكون أقرب إلى التخرج ليتسلم المسؤولية. وهو الآن قد صار ناصرا من أنصار التنظيم وهذا ما أشارت إليه آخر آية في نهاية الطور الأول وهي قول الله تعالى ( قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون نحن أنصار الله…)
إن الطور الثاني في مواده ركز على القرآن والسيرة النبوية الشريفة وتجارب السلف والخلف كتجسيد عملي تطبيقي لما أمر الله به من دعوة ونشر هذا الخير المتجسد في الدين الإسلامي بين الناس حتى يستفيد العضو منها ويستقي منها الدروس والعبر ويشرب كأس التجربة صافيا ممن كرسوا حياتهم داعين إلى تعالى متحررين من كل عوامل الشد إلى الأرض والإخلاد إلى زخرفها والتقاعس والدعة والكسل. كما ركز هذا الطور على فقه الواقع المحلي والعربي والعالمي وبتركيز زائد على الواقع المحلي لكونه موقع التحرك وساحة الدعوة.
المرحلة الأولى من الطور الثاني:
شملت هذه المرحلة فقه الدعوة وركزت على التجارب الدعوية المعصومة وهي تجارب الأنبياء عليهم السلام. ولا يخفى أن تجارب الأنبياء حافلة بالتنوع في التعامل مع مختلف الأنماط والمستويات الاجتماعية والثقافية فتجربة سيدنا إبراهيم غنية في أبعادها ومعانيها حيث يتجلى أسلوب الحوار والحجاج مع المنكر لوجود الله خالق كل شيء. وتجربة سيدنا نوح الغنية بقيمة الصبر رغم قلة الإنتاج والتي امتازت بتنوع في الأساليب دون كلل ولا ملل من أجل إنقاذ الناس من هلاك محقق. أما تجربة سيدنا يوسف عليه السلام فهي تجربة الداعية الذي يدعو إلى الله في كل أحواله وتحت كل الظروف قاهرة كانت أو رغدة ثرية كانت أو فقيرة. أما تجربة سيدنا موسى عليه السلام فهي مدرسة خاصة متنوعة التخصصات ومختلفة الأساليب حيث المعاناة مع الأتباع المتجلي في جيل فرعون أي الجيل الذي تربى في الذل والمهانة فلم يستطع فكاكا ولا تحررا من نفسيته المهزومة حتى بعد غرق فرعون.
أما عن تجارب الخلف فقد ركز البرنامج على بعض التجارب الغنية والواسعة الانتشار حيث تختلف البيئات وتتنوع الأساليب والطرق والظروف وهو ما يحتاجه الداعية لصقل مهاراته الدعوية لأنه معرض للتعامل مع مختلف الأصناف وفي شتى الظروف.
ومن هذه التجارب تجارب الخلف نجد التجربة السلفية أي تجربة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حتى يطلع عليها الفرد ويعلم حقيقتها ويطلع على ما قيل فيها من حقيقة أو تلفيق وحتى يأخذ منها ما يمكن أخذه مما يساعده في دعوته وعمله، ومن بلاد المشرق العربي إلى تركيا بلاد الخلافة الإسلامية حيث التجربة النورسية من خلال جماعة النور. ومن تركيا يتم الرجوع إلى بلاد شرق آسيا حيث التجربة الهندية المتجسدة في جماعة التبليغ ومؤسسها محمد إلياس. ومن الهند يتم اجتياز الحدود إلى باكستان بلد التجربة المودودية بزعامة أبي الأعلى المودودي. ومن باكستان إيابا إلى مصر حيث يتم الإطلاع على أشهر تجارب القرن العشرينوهي تجربة الإخوان المسلمين. وبعد هذا النمط من التجارب القديمة نسبيا يتم التعرف على التجارب التي لازالت حية نابضة على رأسها تجربة دعوة مالك بن نبي التي تعتبر امتدادا لتجربة جمعية العلماء المسلمين، ومدرسة ابن نبي لها أثر كبير في عقول الكثير من المسلمين الآن، لأن الرجل كان يتصرف ويتحدث وينظر وكأنه كان يعيش ظروف هذا العصر وزمانه حتى أنه سمي بالمفكر الذي سبق عصره. وبما أن الاتجاه الصوفي له وجود واضح في البلاد العربية هموما وبلاد المغرب خصوصا كان لابد للبرنامج أن يجعل الأفراد على دراية واطلاع على هذا المشروع سواء في شقه الطرقي المنزوي بين الجدران من زوايا وأضرحة و الحركي الذي تمثله جماعة العدل والإحسان. وبما أن العدل والإحسان ليست الحركة الوحيدة المشتغلة في الساحة الدعوية المغربية أدرج في البرنامج الحديث ، تقريبا ، على جميع الحركات الإسلامية في المغرب منذ السبعينات إلى الآن.
و مع مواكبة هذه التجارب النبوية الفريدة وتجارب الخلف الرائدة وتجارب الحركات الإسلامية المعاصرة، امتاز الشهر الأول من هذه المرحلة بالخطاب الفردي حتى يتحمل الفرد مسؤولية الدعوة بمفرده فنجد الخطاب القرآني يركز على هذا التكليف الفردي ( قم فأنذر) ( قم الليل) ( أنذر عشيرتك الأقربين) وتعزز هذا الخطاب التوجيهات التربوية والدعوية التي تحث على البدإ بالنفس ثم الأقربين ثم الناس كما تحث على خفض الجناح للأتباع. وتحدد بدقة من خلال مجموعة من الدروس أن الدعوة تكون إلى الله لا إلى التنظيم ولا إلى فلان ولا إلى علان حتى لا تتحول الوسيلة إلى هدف، فصير الجماعة إلها يعبد من دون الله. إن هذا الأمر، لخطورته، هو الذي جعل خالص جلبي يتحدث عن العمى في الحركة الإسلامية وهذا العمى كمرض يتسلل إلى عمق الحركات عندما تتحول من الدعوة إلى الله إلى الدعوة إلى التنظيم وتقديس التنظيم وتمجيد التنظيم فيحدث التنافس والتقاتل حول الأفراد حتى صارت بعض الحركات العاقلة تحرم على أبنائها ما تسميه بالحرث في الأرض المحروثة. كما أن الأعضاء الذين يتربون في حركات همها الوحيد والأوحد هو تضخيم التنظيم وتوسيع قاعدته بأي شكل كان هي حركات صنمية وأتباعها مجرد غوغاء وغثاء، من أهم خصالهم، التي تربوا عليها، التعصب للتنظيم واعتبار كلام القيادة وحيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وتتلاحق الدروس معلنة بأن الدعوة تتم بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى تنسجم الوسائل والآليات الصحيحة مع الهدف الصحيح النبيل. وبما أن الفرد ضعيف لوحده قوي بإخوانه وأن التآزر والتعضيد في الدعوة يحقق نتائج أفضل ويسرع من انتشار رقعة خير الإسلام بين الناس، جاء الشهر الثاني ليشد عضده بأمور أخرى على رأسها العمل الجماعي المنظم، أي الدعوة الجماعية ولذلك نجد من الدروس المنتقاة لهذا قوله تعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ) مع التوجيه إلى ضرورة ذكر صفات الأمة الداعية التي ما ميزت عن باقي الأمم إلا لكونها تدعو إلى الخير سواء كان معروفا يؤمر به أو منكرا ينهى عنه. ولا تختلف هذه الدروس عن باقي الدروس مثل التقوى والثبات على الإسلام الذي يعطي نفسا غير منقطع للدعوة من خلال التواجد المستمر للداعية وسط إخوانه دون تخل أو ارتداد أو تراجع أو تولي. وكذا الأمر بالاعتصام بحبل الله والأمر بالحفاظ على وحدة الصف الضامن لوحدة المنهج الدعوي وفق ما يأمر به الله تعالى ويأمر به رسوله المصطفى.
أما محور السيرة فيسير بتسلسل زمني طبيعي مع المرحلة من بدايتها إلى نهايتها. ونلاحظ أن السيرة لا تعتمد على مجرد السرد التاريخي بقدر ما تركز على العبر والدروس والاستنتاجات ذات الحكم والفقه الدعويين.أما باقي الموضوعات المواكبة للتفسير والسيرة فتشكل الدعامة الكبرى لفقه الدعوة مثل فن الاستيعاب وأصناف المدعوين ومراحل الدعوة وأسسها وأولويات العمل الإسلامي التي تهدف إلى إعادة ترتيب العقل المسلم.
المرحلة الثانية من الطور الثاني:
تستهدف هذه المرحلة فقه الواقع لأن الفرد الذي سيصير داعية يدعو إلى الله ويحبب للناس الخير الذي جاء به خاتم الأنبياء. لا يمكن أن يكون ناجحا في دعوته إذا كان يتوجه بخطاب يصلح في المريخ لأناس يعيشون في الأرض.
ولذلك أدرج البرنامج ضمن حلقاته دروسا تتناول الحديث عن كل ما يقع في هذا العالم مثل الواقع الدولي أو النظام الدولي وانعكاساته على العالم الإسلامي الذي تأتي على رأسه القضية الفلسطينية. وبما أن الواقع المحلي جزء لا يتجزأ من الواقع العالمي وهو يمثل الواقع الذي يتحرك ويعيش فيه الفرد كان من الضروري أن يتناول البرنامج كذلك الحديث عن تركيبة الواقع المغربي اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.
وبعدما يتخرج الفرد من هذا البرنامج ويصير عضوا مصححا لتصوره للإسلام ومستوعبا لمعنى الانتماء التنظيمي ليكون منضبطا وملتزما بما تقتضيه القرارات والمخططات. وعارفا بآليات الدعوة ووسائلها وطرقها وفاقها لواقعه..وبعدما عزز مهاراته بالكثير من التجارب العالمية والمحلية وغربلها وميز الغث فيها من السمين وحدد ما يصلح لواقعه الذي يمتاز بخصوصيات يختلف فيها عن كل المواقع الأخرى. وبعدما استوعب أن المغرب دولة إسلامية يحكمها أمير المؤمنين الذي يقوم على أساس البيعة الشرعية وهو الحامي الأول لهذا الدين وهو المرجع والحكم إذا ما اختلف الناس أو العلماء أو التنظيمات في شيء تماما كما وقع في شأن مدونة الأسرة. بعد هذا التخرج ينتقل الفرد ليخضع لبرنامج آخر يسمى بالبرنامج التأهيلي الذي يعمل على تأهيله من خلال تعريفه على مجموعة من الأمور الحيوية الضرورية والتي تتعلق بميكانيزمات العمل الإداري والتربوي و الثقافي و الإعلامي و المالي الاقتصادي و الاجتماعي و الحقوقي نظرا لأهميتها في بلورة الوعي ولأنها مفاتيح التعامل مع جميع الأصناف والقطاعات حتى يكون في مستوى بلورت خطاب يتسم بالواقعية. وأحسب أن هذا البرنامج لو كان لا يزال معمولا به لحد الآن، لأدخلت الحركة الإسلامية مجال الإعلاميات ضمن تلك المجالات ولعملت على تسخير النت في خدمة الدعوة إلى الله.




Aucun commentaire