الكتاب العربي بين الإنتاج والاستهلاك
من أهم المواضيع الحساسة في قياس نمو الفكر وتزايد المعرفة في الأمم هو معرفة معدل القراءة واستهلاك الكتاب لديها. فكلما تحدثنا عن أمة برزت كقوة سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية إلا وكان الكتاب عندها بمثابة الركيزة الأساس التي اعتمدتها في نموها وتقدمها وبروزها.
فماذا عن الأمة العربية وماذا عن الإنسان العربي؟ هل يمكن أن نعتبر الإنسان العربي قارئا منتظما؟ وهل يمكن لنا أن نتحدث في الوطن العربي عن شيء اسمه الإدمان على القراءة؟ فما هو معدل القراءة لدى الإنسان عندنا ؟ وما هو معدلها لدى الأوربي والأمريكي؟ وما هو معدلها عند الإسرائيلي؟
إننا منذ نعومة أظفارنا ونحن نسمع بأننا أمة (اقرأ) أي الأمة التي أول ما نزل فيها من السماء هو ( اقرأ باسم ربك) ولكن لم نسمع عن إنساننا العربي المسلم أنه يحب الكتاب ويخصص جزءا من دخله لاقتناء ما ينعش فكره وينمي معرفته. في حين إننا سمعنا كثيرا عن إنسان أوربي يقرأ في كل مكان في الحافلة في قاعات الانتظار سواء كانت قاعة انتظار طائرة أو قطار، في الطوابير وحتى في المرحاض، ولذلك صنع مرحاضهم على شكل كرسي كي يساعد في حمل الجريدة على الأقل. وهذا ما حدا بالكاتب الفرنسي أوريال شول وهو باريسي الأصل، عندما رأى الإنسان الفرنسي يقرأ في كل مكان، إلى صنع جريدة مطاطية تقرأ في الحمامات سماها » لاناياد » ومعناها عروس البحر.
وقد لقيت رواجا كبيرا لأن الإنسان الفرنسي يريد أن يستغل أي وقت لمزيد من المطالعة حتى ولو كان هذا الوقت هو الوقت الذي يقضيه في الاستحمام.
قيل لأرسطو: كيف تحكم على إنسان؟ فأجاب: أسأله كم كتابا يقرأ وماذا يقرأ. ونحن لن نأخذ بميزان أرسطو وربما من الأفضل أن نأخذ بميزان مالك بن نبي من خلال قولته الشهيرة: « الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أوانها » أي الأمر عندما يجب أن يكون مسألة حياة أو موت. فالحياة تكون بالعلم والمعرفة فيضمن الإنسان لنفسه كيف يتطور ويتفاعل وكيف يحقق سعادته ويشق طريقه نحو الحياة التي تتماشى وتكريم الله له. إن الإنسان الأمريكي حقق لذاته المجد والرفاه ووفر لنفسه تقدما ضخما على جميع المستويات جعلته سيدا عالميا ودركيا يأمر وينهى كل الجهال والكسالى لأنه في الوقت الذي يقرأ فيه عشرون إنسان عربي كتابا واحدا في السنة يقرأ هو 36 كتابا في السنة أي بمعدل ثلاث كتب شهريا. حتى ذهب بعض مفكريهم وهو نيك موركان إلى القول: الإنسان العادي الذي لايريد أن يتقادم أو يموت عليه أن يقرأ ثلاثة كتب شهريا بمجموع 36 كتاب سنويا »
نحن العرب ناجحون في البكاء على الأطلال والتبجح بتاريخ أمتنا القارئة أيام اعتكف المسلمون على ترجمة كتب اليونان ونبكي على بيت الحكمة العظيم ونترحم على صاحبه ومؤسسه المامون، ونفتخر بما فعله المولى الحسن الأول وهو يبادل أسرى إسبان بمائة كتاب.
ولا زال يذكر بعضنا بعضا بالحروب الصليبية التي أغرقت في نهر الفرات من الكتب ما غير لون الماء و جعل الخيل تعبر النهر دون أن تتبلل قوائمها.
ولكن ننسى، بما أننا تحدثنا عن بيت الحكمة والمامون، أننا نحن العرب خلال الألف عام التي مضت أي منذ عهد الخليفة المامون ترجمنا من الكتب ما تترجمه إسبانيا وحدها في عام واحد. في مقابل ذلك، تترجم إسرائيل 15 ألف كتاب سنويا وباللغة العبرية التي تعد لغة منقرضة في حين لا تترجم الدول العربية مجتمعة أكثر من 330 كتابا سنويا. مع الإشارة إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار العدد الهائل الذي يفوق المليار من العرب مقابل حفنة من الإسرائيليين.
هذا إذا أردنا أن نعتبر إسرائيل عدوا لذوذا ومنافسا شرسا أي كل القرائن تؤشر على حجم العار الذي يصيب أمتنا من الكسل والخمول والتراخي و اللامبالاة.
أما من حيث النشر فالكارثة متشابهة إذ يصدر الناشر العربي سنوياً كتاباً واحدا لكل رُبع مليون شخص في العالم العربي، مقابل كِـتاب لكل خمسة آلاف شخص في الغرب، أي مقابل كل كتابين يصدران في العالم العربي، هناك 100 كِـتاب يصدر في الغرب. وفيما يخص الإنتاج القرائي المخصص للأطفال فيكفي أن نعلم أن طفلنا يكتب له أسبوعيا كلمة واحدة وتوضع له صورة واحدة ولا مجال للمقارنة إذا قلنا بأن الطفل الأمريكي وحده تكتب له 12 مجلة أسبوعيا.
فما الحل الممكن لهذه المعظلة؟ وكيف يمكن أن يتحول المجتمع العربي إلى مجتمع قارئ ويولي الكتاب أهمية أكثر مما يولي لبطنه الذي ينفق عليه دون حساب بل ودون تفكير. ربما نحتاج إلى مراكز أكاديمية تكون عبارة عن مراكز بحث متخصصة في معرفة الأسباب والدوافع التي أدت إلى هذا العزوف عن القراءة واقتراح حلول كفيلة بإحياء دور الكتاب في حياة الأفراد والأمم.
وقد يقول قائل: في البداية لابد أن نؤمن أولا بأن نسبة المطالعة فعلا ضئيلة جدا في الوطن العربي. نقول له: لقد صار عندنا إجماع عربي بأننا لا نقرأ وكما يقول الكاتب كمال الدين حسين أستاذ الأدب المسرحي والدراسات الشعبية بجامعة القاهرة إننا بالفعل مجتمعات لا تقرأ، وقد استشهد على ذلك بأنه في السنوات الأخيرة تطبع مجرد عشرات النسخ وتظل بالخمس والعشر سنوات دون استخدامها.
ويرجع السيد حسين السبب إلى أننا فقدنا مفهوم التعليم الذاتي بسبب التعليم التلقيني الذي تعتمده مناهجنا التعليمية،
وقد يحلو للبعض تحميل مسؤولية هذا الانحطاط القرائي للمخططات الخارجية التي تستهدف الأمة العربية وتعمل، عن قصد، على تجهيلها وإرجاعها إلى ما كانت عليه قبل مجيء الإسلام أمة أمية لا تمسك قلما ولا تقرأ كتابا. حيث إن البعض ذهب إلى اعتبار المشكلة متجلية في العلاقة الوطيدة الموجودة بين الدين والثقافة لكون الدين هو الركيزة الأساس للثقافة العربية مما دفع بقوى الاستكبار العالمي إلى اعتبار الثقافة الإسلامية ثقافة إرهابية يجب محاربتها. وهذا ساعد ومهد لنعث الثقافة العربية بشتى النعوت المشينة كالتحجر والرجعية والتخلف.
وردا على هذا الاعتبار أقول بأن هذه التهم المجانية الصادرة من الغرب هي عامل قوة لنا لا عامل ضعف، فعلى الأقل يجب الدخول في تحدي وإرجاع الاعتبار للذات التي تقوم على أساس الدين ونعمل على حصانة مجتمعنا العربي والإسلامي مما يهدده في إطار العولمة الغربية من غزو فكري وثقافي يعمل على تشويه هويتنا وإلغاء وجودنا.
ومهما كانت المخططات الخارجية ضارية وخبيثة فإنها لن تكون في مستوى خبثها وضراوتها مثل ما يصدر عن أبناء الأمة العربية أنفسهم. منهم أعداء اللغة العربية الذين يكيدون لها بالليل والنهار، وما يصدره بعض الصحفيين من مجلات دارجية سمجة يمجها الذوق وتقتل حلاوة التمتع بلغة القرآن العظيمة، فضلا عما تعتمده بعض الجرائد منها المغربية على الخصوص حيث تكتفي بوضع قصاصات صغيرة وأخبار الجرائم والانتهاكات في جملة أو جملتين وكأنها تستجيب لكسل القارئ العربي الذي جعلته يفر من قراءة مقال مطول ذي نسق تحليلي وغني بالمعطيات والأفكار.
وربما ينبغي أن تبدأ الحلول بحث الآباء على توفير مكتبات داخل بيوتهم فعلى الأقٌل سنقضي على هذه الظاهرة في الأجيال المقبلة فينشأ جيل قارئ يعرف قيمة الكتاب ويجعله رفيق دربه إلى أن يصير كاتبا ومؤلفا لأن طريق القراءة هو الطريق المختصر نحو التأليف والإبداع وملء المكتبة العربية بمزيد من العلم والمعرفة. وعن طريق القراءة يحدث النقد الذي يعتبر الحافز الأهم في تقليص الفارق بيننا وبين غيرنا من حيث نشر الكتاب واستهلاكه.
Aucun commentaire