خرافة المشاركة الشعبية ….بقلم : د .فيصل القاسم
تروج في العالم العربي هذه الأيام على نطاق واسع صرعة « المشاركة الشعبية ». وأقصد بذلك مشاركة الجماهير أو إشراكها في الحياة السياسية العربية بعد أن غيبتها الأنظمة الحاكمة واستفردت بالحكم لعشرات السنين إن لم نقل عشرات العقود. الجميع يتحدث عن ضرورة خلق مجتمع مدني عربي قادر على المساهمة في إدارة الحياة العربية بمختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فلا هم لندوات ومؤتمرات الديمقراطية هذه الأيام سوى المطالبة بتوسيع إطار المشاركة السياسية لتشمل أكبر قطاع من الشعب العربي. وبدورها تعطي أمريكا لموضوع المشاركة الشعبية أهمية بارزة في مشاريعها « الديمقراطية » المقترحة على العرب على مبدأ طبيب يداوي الناس وهو عليل
!!
لا أدري لماذا هذا الهوس الشديد والتركيز الإعلامي والثقافي المكثف على موضوع المشاركة الشعبية كما لو أنها ستكون البلسم الشافي لكل أمراضنا المزمنة، فبرأيي المتواضع فإن الداعين إلى إشراك الشعوب العربية في العملية السياسية ليسوا أكثر من حالمين وواهمين إن لم نقل طوباويين. فالمشاركة الشعبية ليست أكثر من خرافة حتى في الدول الديمقراطية ذاتها، فالشعوب الغربية في معظمها لا تمارس حقها في المشاركة السياسية إلا مرة كل بضعة أعوام عندما تدلي بأصواتها في صناديق الاقتراع لا أكثر ولا أقل ثم تخلي الساحة للحكومات لتفعل ما تشاء. وحتى هذه المشاركة الهزيلة تزداد هزالاً، فملايين الأوربيين والأمريكيين لم يعودوا متحمسين حتى للتصويت في الانتخابات، إذ تشير الإحصائيات إلى أن عدد المصوتين في الانتخابات المحلية والعامة في انخفاض خطير ولا يصل في أمريكا أحياناً إلى عشرين بالمائة حسب المفكر والمؤرخ الأمريكي الشهير غور فيدال. صحيح أن العدد أكبر في أوروبا لكنه ينخفض عاما بعد عام إلى حد جعل البعض يتحدث عن جو من اللامبالاة الصارخة بالشأن السياسي في الأوساط الشعبية الغربية. ولا يرى الكثير من البريطانيين في أنفسهم أكثر من مقترعين. ويميل معظمهم إلى تجنب الحديث في السياسة وهناك عبارة إنجليزية شهيرة تقول: « لنبتعد عن السياسة » عندما يحاول أحدهم طرق موضوع سياسي ما في جلسة عادية كما لو أن الخوض في الحقل السياسي من المحرمات. وتكاد هذه المقولة تلخص الموقف الشعبي البريطاني خصوصاً والغربي عموماً من النشاط السياسي
.
لقد نجحت الأنظمة الغربية التي تتشدق بالديمقراطية والمشاركة الشعبية في إبعاد الشعوب عن السياسة بشتى الطرق منذ القرن التاسع عشر تقريباً، فقد ابتكرت وسائل وأساليب شيطانية تلهي فيها الناس وتبعدهم عن الحياة السياسية، ففي بريطانيا مثلاً يهتم السواد الأعظم من الشعب إما بكرة القدم أو لعبة الكريكيت أو بالصحافة الشعبية الصفراء أو بالمشروبات الكحولية إلى حد يجعل ملايين البريطانيين شبه جهلة بالشأن السياسي العام إلى درجة البلاهة أحياناً
.
والأمر أسوأ بعشرات المرات في أمريكا إذ تصل درجة الأمية السياسية إلى مستويات مرعبة، « فالأمريكي الجيد » حسب التعريف الدارج هو ذلك الشخص الذي يستيقظ من النوم في الساعة السابعة صباحا فيطعم كلبه أو قطته ثم يتناول فطوره ويتوجه إلى العمل ليعود في نهاية النهار إلى منزله فيقدم الطعام لحيوانه المدلل ثم يتناول هو عشاءه وبعد ذلك يستلقي على الكنبة وهو يحتسي جعته المفضلة ويشاهد المسلسل المحلي. وبعد أن يفرغ من ذلك يتوجه إلى سريره كي ينام قرير العين ليعاود الكرة في صباح اليوم التالي
.
المواطن الغربي إذن إنسان مغيب إلى حد كبير ويكاد يكون مجرد مستهلك لا يهمه من العملية السياسية سوى أسعار الكحول والبنزين والتبغ وأسعار الفائدة، فإن ارتفعت غضب وهدد بعدم التصويت للحزب الحاكم الذي رفعها في الانتخابات القادمة. هذه هي مشاركته في الحياة السياسية. أما باقي وقته فهو عبدمرهون للنظام يمضي جل حياته قلقا من عدم القدرة على دفع أقساط المنزل وفواتير الماء والكهرباء والغاز. وقد شاهدت على التلفزيون البريطاني ذات مرة إعلاناً يلخص محنة المواطن الغربي الدائمة. الإعلان عبارة عن ساعي بريد يقذف بعنف عدة رسائل من خلال فتحة الباب المخصصة للبريد بحيث تبدو كما لو كانت وابلاً من الرصاص المخيف. هذا هو هاجس المواطن الغربي معظم الوقت. إنه مهموم ومرعوب من الرسائل التي تصله يومياً وتطالبه بدفع الضرائب والأتاوات وبالتالي فهو مشغول بهمومه اليومية بشكل يعزله عن السياسة تماماً
.
والأنكى من ذلك أن الثقافة الغربية ليست ثقافة « تشاركية » أصلاً لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الاجتماع. إنها ثقافة فردية حادة. ففي السياسة مثلا بشرنا المؤرخ والمفكر البريطاني الشهير توماس كارلايل بأسطورة البطل الفريد الذي يستطيع أن يحرك العالم بيد واحدة. أما الشعوب في رأي كارلايل وغيره من منظري الرأسمالية فهم عبارة عن قطعان من المستهلكين لما يفعله ويقدمه البطل. وفي الاقتصاد هناك (التايكون) الذي يملك المصانع والتلفزيونات والصحف والمجلات والإذاعات كروبرت ميردوخ مثلاً بينما لا تملك بقية الشعب قوت يومها. بعبارة أخرى فإن الثقافة الرأسمالية ليست ثقافة مشاركة سياسية أو اقتصادية حتى لو دخلت عليها بعض التعديلات في الأعوام الأخيرة وأصبحت الشعوب تساهم في الشركات الكبرى بنسب قليلة فيما يمكن أن نسميه الرأسمالية الشعبية. وحدث ولا حرج عن الحياة الاجتماعية المعدومة في الغرب بسبب الطبيعة الفردية للإنسان الغربي المعزول والمهمش
.
وفيما هلل كارلايل للبطل الفذ الذي يجب أن يسود، دعا اسبينوزا إلى إبعاد الشعوب عن المجال السياسي وحصر السياسة في النخب. فالسواد الأعظم من الشعوب برأي اسبينوزا هم عبارة عن رعاع وغوغاء لا يصلحون للقيادة والمشاركة السياسية. ولا ننسى نظرية المفكر الفرنسي غوستاف لوبون الذي اعتبر في كتابه الشهير (سيكولوجية الجماهير) أن الجماهير عبارة عن قطعان يمكن تسييرها والتلاعب بها حسب الطلب. ومن الواضح أن الأنظمة الغربية تعمل بوحي من نظريات اسبينوزا وكارلايل ولوبون. فالإدارة الأمريكية بشهادة العديد من الكتاب والمفكرين الأمريكيين تحكم الشعب الأمريكي وتتحكم وتتلاعب به عن طريق الخوف والدين، فهي ترهبه وتخيفه دائماً بالأخطار الخارجية والأكاذيب كي يسير وراءها بشكل أعمى وتخدره وتلهيه بالدين وخزعبلاته. وقد نجحت إلى حد كبير في تطبيق نظرية لوبون آنفة الذكر
.
لا أدري إذن لماذا صدع المفكر العربي الراحل إيدوارد سعيد رؤوسنا وهو يتفاخر بجماعية صنع القرار في أمريكا، فحسب كتاباته فإن المجتمع المدني الأمريكي بأطيافه كافة يشارك في صنع القرار بقوة إذ تتكاتف جهود الكنائس والجامعات والنقابات والفعاليات الشعبية لتصنع القرار الأمريكي جنباً إلى جنب مع الإدارة الحاكمة. لكن تبين فيما بعد أن المشاركة الشعبية التي تحدث عنها سعيد تبخرت بسرعة البرق هذا إذا كانت موجودة أصلاً. فالرئيس الأمريكي الذي اتخذ قرار ضرب مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بالقنبلة الذرية في نهاية الحرب العالمية الثانية لم يستشر حتى المقربين منه فما بالك بالشعب الأمريكي. أما الفريق الذي اتخذ قرار غزو العراق في أمريكا يكاد يعد على الأصابع، لا بل إن بعض المشاركين في اتخاذ القرار كانوا يجمعون بين عملهم كباحثين وخبراء في مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية التي تزود الإدارة بالتقارير والدراسات والاستشارات وعملهم في الإدارة الأمريكية، فبول وولفوويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي جاء من أحد المعاهد التابعة للمحافظين الجدد وكذلك ريتشارد بيرل مستشار وزارة الدفاع. بعبارة أخرى فإنهم يخططون وينفذون دون العودة إلى أحد. والأنكى من ذلك أن كل الذين تورطوا في اتخاذ قرار الغزو هم من طينة واحدة، فهم يهود وصهاينة ومحافظون جدد بينما الشعب الأمريكي بفعالياته كافة في واد آخر تماماً. يا للمشاركة الشعبية
!
وعندما هبت بعض أطياف المجتمعين الأمريكي والبريطاني لتعارض الغزو ضرب بها بلير وبوش عرض الحائط، فبالرغم من أن نسبة البريطانيين الذين رفضوا فكرة الغزو وصلت إلى حوالي تسعين بالمائة حسب استطلاعات صحيفة الديلي ميل إلا أن رئيس الوزراء لم يعرهم أي اهتمام. وبدوره راح الرئيس الأمريكي يرهب كل من يدلي برأيه في موضوع العراق فأخرس من أخرس وأرهب من أرهب. أليس حرياً ببوش إذن أن يشرك الشعب الأمريكي في الحياة السياسية قبل أن يطالب الأنظمة العربية بالمشاركة الشعبية؟
وإذا كانت الإدارة الأمريكية الحالية قد قضت على بقايا المشاركة الشعبية في الحياة السياسية الأمريكية وهمشت قوى المجتمع المدني فإن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر كانت قد سبقتهم جميعاً في إقصاء الشعب عن الساحة السياسية عندما ركـّعت نقابات العمال وشيطنت قادتها الكبار وعلى رأسهم آرثر سكارغيل رئيس نقابة عمال المناجم التي خاضت حرباً ضروساً ضد نظام تاتشر لكنها لم تستطع الصمود أمامها طويلاً. ولا داعي لذكر أن الاتحادات العمالية في بريطانيا الآن أقرب إلى نظام بلير منها إلى الشعب البريطاني
.
مشكلتنا في العالم العربي إذن ليست في إشراك الشعوب في الحياة السياسية، فالقيادة لم تكن يوما ما من مهمة الشعوب ولن تكون، بل مشكلتنا تكمن في بناء دولة المؤسسات والقانون والتداول على السلطة بدلاً من التشبث بها إلى آخر رمق، فالمشكلة في حكامنا ليس أنهم فقط حكام فاشلون في معظمهم بل في أنهم مستبدون ومستمرون في فشلهم. وكل ما تريده منهم الشعوب ليس أن يشركوها في الحكم ويتقاسموه معها بل في أن يتركوا المجال لقيادات جديدة تتولى زمام الأمور. وهذا لا يتم إلا إذا سادت الديمقراطية بشكلها الأساسي القائم على التنافس والتداول حتى لو استأثر الفائزون اللاحقون بالحكم وانفردوا بصنع القرار فيما بعد كما يفعل القادة الغربيون، لكن بشرط أن يكون استفرادهم محكوماً بفترة زمنية محددة كما هو الحال في الغرب. صحيح أن الحاكم الغربي قد يحكم بأمره وأمر حاشيته في الكثير من الأحيان ولا يعير الشعوب اهتماما كبيرا إلا أنه على الأقل لا يحكم حتى يخطف عزرائيل روحه كما هو حال معظم الحكام العرب. فبالله عليكم يا حكامنا « الأشاوس » إذن ألا تخشوا من المشاركة السياسية أو الشعبية التي يخوفكم بها بوش، فهي غير قابلة للتحقيق لا في الشرق ولا في الغرب إلا في مخيلة الرومانسيين اليساريين. كل ما نرجوه منكم أن تفسحوا المجال لغيركم بعد مدة كي يقدم ما عنده، فحتى العباقرة تنضب عقولهم من الأفكار النيّرة بعد فترة، فما بالكم إذا كان بعضكم لا يستخدم عقله أصلاً
!!
عن جريدة الشرق القطرية
Aucun commentaire