المسلمون الأسبان .. محاولة لاستعادة الماضي

–
كان الوجود الإسلامي في الأندلس (إسبانيا والبرتغال) طويلاً وممتدًا عبر ثمانية قرون في تجربة إنسانية وحضارية فريدة، فقد وصل الإسلام إلى إسبانيا عندما فتح المسلمون جزيرة إيبريا سنة ( 39هـ – 711 م ) واكتسح المد الإسلامي أكبر مساحة من شبه جزيرة إيبريا في سرعة مذهلة وأتى الفتح بنتائج رائعة، بفضل الجهاد والتسامح الديني عند الفاتحين، فلم يتعرض المسلمون للمسيحيين في إقامة شعائرهم، ولم يجبروا أحد على الدخول في الإسلام، ولم يمضي على دخول العرب ثلاثون عاماً إلا وكانت إيبريا بكاملها في حوزة الإسلام، وتحول الفاتحون إلى مهاجرين واستوطنوا البلاد، بل تجاوزها نفوذهم إلى جنوب فرنسا، وأدخل العرب في إيبريا زراعة المدرجات الجبلية، ومدوا شبكات الري المعقدة، وأدخلوا محاصيل جديدة، وتحولت البلاد إلى مشعل حضارة.
وامتد تأثير الحضارة الإسلامية إلى الممالك الأوروبية، وتلقى طلاب العلم من المسيحيين من العلوم العربية مما أثار فيهم النشاط فاجتمعت فيهم ركيزة الحضارة فيما بعد وأسس العرب الهيكل الحضاري الذي مازال يميز إسبانيا، ويضم القاموس الأسباني مفردات من العربية، وتقدر الآثار الإسلامية في إسبانيا بأكثر من مليارين من الدورلات، وانتهى حكم العرب في إسبانيا بسقوط غرناطة في سنة ( 898 هـ- 1492 م ) بعد عقد معاهدة بين فردناند وإيزابلا يلتزمان بها باحترام الدين ولكنهما نقضا المعاهدة وحاكما المسلمين أمام محاكم التفتيش التي أصدرت أحكامها بالإعدام حرقاً على أعداد كبيرة من المسلمين واستمرت هذه المحاكم تمارس سلطانها أكثر من ثلاثة قرون ولم تلغ إلا في القرن التاسع عشر.
على إثر ذلك هاجرت أعداد كبيرة من المسلمين إلى بلاد المغرب، واضطر من بقي أن يخفي عقيدته سراً وهم ( الموريسكيون ) واللذين تمردوا في سنة ( 976 هـ – 1568 م ) ، ولما يأس الأسبان من إجبارهم على ترك دينهم أمروا بطردهم من إسبانيا سنة ( 1019 هـ – 1610 م ).
ورغم هذا التاريخ، ورغم ما تعرض له المسلمون والعرب في إسبانيا من إبادة، إلا أن أعداد المسلمين في إسبانيا تزايدت في السنوات الأخيرة حتى أصبحوا جالية كبيرة لها مكانتها، خاصة بعد أن نشطت الهجرة من شمال أفريقيا (المغرب والجزائر) لتعبر إلى أوروبا.
الإحصائية الإسبانية الصادرة عن الأديان في إسبانيا عام (1410هـ – 1991م ) أشارت إلى أن عدد المسلمين 250 ألف نسمة، والبروتستانت 30 ألف، والأرثوذكس 400 ألف واليهود 5 ملايين، ويكون الكاثوليك أغلبية السكان.
لكن حسب آخر دراسة قام بها اتحاد الجمعيات الإسلامية بإسبانيا، فإن عدد المسلمين الإسبان بلغ 1.2 مليون مسلم، وأن ما يعادل 2.5% من الإسبان مسلمون، أغلبهم ينحدرون من دول المغرب العربي و دول إفريقيا جنوب الصحراء، وأن من بين كل 10000 مواطن إسباني هناك 250 مسلم.
وذكرت الدراسة أن عدد الإسبان الذين اعتنقوا الإسلام وصل إلى 33.750، أي ما يفوق عدد المسلمين بمدينة سبتة المحتلة.
ونظرا للزيادة المستمرة في أعداد المسلمين الإسبان فقد بدأ الاهتمام بإقامة المساجد وأماكن الصلاة في المدن الكبرى وفي القرى الصغيرة الجاذبة للعمالة المهاجرة، وبدأت هذه المساجد تحرك وتزيد النشاط والعمل الإسلامي حيث تقام بجوارها وربما بداخلها مدارس تعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم لأبناء المسلمين.
هذه الظاهرة تعتبر جديدة على إسبانيا الكاثوليكية التي كانت منذ سقوط غرناطة قبل خمسة قرون وقيام دولة إسبانيا الموحدة تحت التاج الملكي الكاثوليكي لا تعترف بأي دين آخر غيرالكاثوليكية، وكان القانون يعاقب على ممارسة الطقوس الدينية طبقا للأديان الأخرى، ويأمر بمصادرة أموال من يثبت ممارستهم لشعائر مخالفة للكنيسة الكاثوليكية، لذلك كانت تتم ممارسة شعائر تلك الأديان سرا، أو في أحيان كثيرة تحت رقابة حكومية مشددة.
وقد ظل هذا الوضع قائمًا حتى فترة قليلة قبل موت الجنرال فرانكو وتحول إسبانيا إلى النظام التعددي الديمقراطي، وتحولت إسبانيا إلى دولة علمانية لا دينية طبقا لدستور عام 1978، ومنذ ذلك الوقت اتخذت السلطات الإسبانية خطوات حثيثة نحو تحرير الحياة المدنية من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية، وبدأت بالاعتراف بحرية ممارسة شعائر الديانات الأخرى، وتم رفع الإشارة إلى ديانة المواطن الإسباني من الأوراق الرسمية. من هنا بدأ تنظيم الديانات غير الكاثوليكية في إطار قوانين تسمح بإقامة أماكن العبادة لتلك الديانات المعترف بها، ومنها الدين الإسلامي، فانتشرت المساجد وأصبحت تزيد على ثلاثمائة مسجد.
برشلونة:عبدالرزاق زنوتي




Aucun commentaire