Home»International»قصة : عودة (ماتيو)… الأخيرة

قصة : عودة (ماتيو)… الأخيرة

0
Shares
PinterestGoogle+

ولأنه كان موعودا بالعاصفة ، فقد عصفت به وبأحلامه سريعا. مات أبوه مبكرا ، ثم تبعته أمه كمدا عليه ، وترملت أخته الوحيدة بعد زواج لم يعمر طويلا. ولأن العاصفة وعدت بنبيذ ، فقد ارتشف منه ما يكفي للإطاحة بعقل جمل ، في حانات (أفنيون ) البائسة . كان يوم حار وقائظ من أيام يوليوز1973 أول خطوة في مشواره الطويل ، يوم نادى (المقدم لحسن) على أبيه المنحشر وسط وجهاء الدوار وفقيه المسجد العجوز(دون رغبتهم) تحت شجرة التوت الضخمة ، أن اضرب بعصاك الحجر، يخرج لك الياقوت والمرجان!!.
كان يعرف بحدسه ، رغم أميته معنى أن تقطع البحر، وأن تتقاضى أجرتك بالعملة الصعبة ، وأن يكون(الباطرون) نصرانيا!. كل هذه الأشياء كان يختزلها في شيء واحد ، لم نكن نعره أي اهتمام : الفرق بين أجورنا وأجورهم. استودعه الأمانة، ولوح له بحقه في الغنيمة مع أول عودة
لأرض الوطن!. لكن لم يخطر ببال المقدم لحسن يومها ، أنها ستكون عودته الأخيرة ، وأنه سيسافر بعد ذلك بشهور إلى عالم آخر ، لا غنيمة فيه ولا رجوع منه ، وسيكتسب هناك هويته الأبدية .
لم يكن (ماتيو) طفلا عاديا كباقي أطفال القرية. شقاوة مفرطة و ملامح(نصرانية)، بشعر أكثر حمرة وعينان حادتان تطلقان نظرات كالسهام. نابغة في الرياضيات ، المادة التي أطاحت برؤؤس كثيرة ، وجعلت العديد من أطفال البلدة ينقادون مكرهين للآداب وفروعها، بينما كان هو متفوقا في كل المواد العلمية على غير العادة. لم يخنه ذكاؤه كما حدث للكثيرين ، لكن صحة أب باغثه سعال مزمن ، زاد من حدته تدخين (الكيف) وتناول الأعشاب ودماء الضفادع  ، ووصفات حكماء يعجلون بهادم الملذات!.
لم يكن الطبيب في قائمة المطلوبين حينها ، ولا المرغوب فيهم. الحكماء و( العواديات) والأولياء وحدهم من يأتي بالشفاء طائعا مكرها ، أو يعجلون بمغادرة تراب البلدة إلى المقبرة ، في انتظار الحساب و العقاب تحت شجرة البلوط الضخمة!!.
غادر المدرسة مبكرا ، وأطفأ شموعه دفعة واحدة ، ليوفر لقمة العيش لأسرة تتكون من أب عليل وأم وأخت صغيرة ، كان حظها من الضرب وفيرا ، إلى أن استقر بها الحال زوجة (عابرة) لبائع سمك في السوق الأسبوعي.
استعد(ماتيو) للزمن المر مبكرا. لم يكن يغترف الخيرات من البحر، ولكن بالكاد يوفر(خبزا حافيا) من زراعة تعتمد أسلوبا بدائيا ׃ سماد حيواني ، و محراث تجره بقرة صفراء(فاقع لونها) وحمار أجرب ، فقد ذيله في ظروف غامضة!.
كانت البطون يومها لم تصب بعد بالانتفاخ ، العقول سليمة والنيات حسنة. أرسل إليه القائد خالد(آخر القواد المحترمين) فيما تبقى من الزمن الجميل(كونطرادا)، فأتاه (الحريك) مسالما إلى عتبة البيت!. لم يبحث عنه في الخلجان الموحشة ، ولا في القوارب المميتة. ولم يدفع مقابل ذلك إتاوة مالية . فقط ، انحناءة متواضعة وبريئة للسيد القائد. لم يكن خالد إلا شابا يافعا تواقا لمغرب أكثر إشراقا وطهارة. عازب ، لكن لم نسمع أنه أدخل ضيوفا غير عاديين إلى (دار القيادة). إقامة فخمة من مخلفات الاستعمار ، تعلو ربوة صغيرة، محاطة بكل أنواع الورود، في وقت لم تكن تعرف البلدة سوى نوار الدفلى وشقائق النعمان.فيما بعد ، ظهر قواد جدد ، بمواصفات (جديدة)!.يوزعون (الكونطرادات) على الأعيان والوجهاء(بسخاء)أو تباع وتشترى لمجرد ما تقطع البوغاز،إلى أن جاء الرد من الضفة الأخرى بلغة أعجمية فصيحة : لا للمتاجرة بعقود العمل!.
استعد (ماتيو) للغربة بما فيه الكفاية. باع قطعة الأرض المجاورة لشيخ القبيلة بشروط الغفلة ، وأجهز على ثمنها بين أروقة(البيرو) ومكاتبه ، ليستقيم جواز سفره ويأخذ التأشيرة. لم يكن كل ذلك كافيا، فاستدان ليكمل رحلة المجهول في اتجاه (مارساي) حيث ينتظره(الباطرون). وجاء يوم الرحيل ، ودعته فيه نساء البلدة بطقوس لم يألفنها من قبل ، صراخ وعويل ، أصيبت الأم بانهيار عصبي قيل يومها (طيحوها المومنين) . الشبان حائرون ، وبعض الرجال ذهب بهم الحنين إلى أيام(لاندوشين) وصراعهم مع البحر و الغثيان.
أمضى هناك في (أفنيون) ستة أشهر ، متنقلا بين حقول الكروم والتفاح. نهارا في العمل ، وليلا في حاناتها بين أحضان الأعجميات ، بعضهن في سن أمه ، كان يكفيه فخرا أن يدخل لحمه في لحمهن!. وفاته أن يجدد عقد عمله وأشياء أخرى. فعاد من حيث أتى. كان الأب قد مات ميتة لم تفاجىء أحدا. ثم تبعته الزوجة كمدا عليه وعلى (ماتيو) الذي لم يرسل درهما واحدا ، كما يفعل أقرانه من أبناء البلدة في المهجر.
كان وصوله إلى البلدة ليلا. استيقظ في الصباح على علامات الدهشة في عيون لا تنام!.تحركت يومها الألسن بلغات الطير، وانقبضت الأنفاس على إيقاع الألم. (ماتيو) لم يتغير!!.نفس الشنب الأحمر، نفس اللهجة ، نفس سروال(الجينز) الذي اشتراه من (باب الفتوح) بفاس. طريقته في سب الملة و الدين أيضا لم تتغير!.
(ماتيو) القروي المتطرف في انتمائه للبلدة وحبه الوطن ، يعرفه الجميع بهذا اللقب الأعجمي منذ الصغر. أما اسمه الحقيقي فلا يعرفه إلا أقاربه ، ومع ذلك لا ينادونه به. يرى الأمور ويقيمها بطريقته الخاصة. وبذلك تصبح (أمي فاطنة) أشرف من( كريستيان) النصرانية ، زوجة(باطرونه) السابق.فهي وإن كانت لا تصلي  أو تحفظ القرآن ، فهي تنطق بالشهادتين على الأقل ، ولا تشرب ما حرم الله و تدخن السجائر!
 – » ولماذا تدخنها يا(ماتيو)إذن وتحتسي الخمر؟ « 
لا يتردد في الجواب ، فيأتي صريحا وواضحا :
   -« لأني أعشقها حتى الموت…..!! « 
     (ماتيو) مزاجي الطبع ، لكنه حكيم أيضا حين يكون على ما يرام!. ويصلي أحيانا بانتظام ، يذهب للصلاة يوم الجمعة مع سكان القرية في المسجد، حين تكون علاقته منسجمة مع ذاته و مع الناس. وحين تختل  هذه ا لعلاقة أو يعكر مزاجه أحد ، كأن يستحوذ له على زيتونة ، أو يقتل له دجاجة برمية حجر مميتة ، يقطع الصلاة ولا يذهب إلى المسجد احتجاجا ، ولا يتوانى عن وصف الجماعة بالقرود والأوباش،أو المنافقين في أحسن الأحوال. ثم يرجع به الحنين فجأة ودون رغبة منه إلى هناك ، حيث لا شيخ أو مقدم ، لا قائد ولا زيادة في الأرض!. هناك ، حيث يحترمون الدجاج والقطط . هناك حيث ( برنارد) الطيب ذو الأصل البولوني ، يعامله بحنان الأب ، وبلطف لم يعتده في عشيرته!.
–  »  طيلة ستة أشهر ( المدة التي قضاها هناك) ، لم أسمع أن أحدا اعتدى على أرض الآخر، حتى (باوليتا) الاسبانية الأصل ، منعت (القايد) ولم تسمح له بقطع فرع شجرة يعيق مرور الآليات إلى الحقول إلا بالقانون‼. لا يجتمعون إلا يوم الأحد في حانة (المنظر الجميل) فوق ربوة تطل على المدينة الصغيرة ، يشربون النبيذ وكؤوس الجعة ، ولا يصابون بالغثيان فيفرغون ما في بطونهم ، كما يفعلون هنا. فقط يضحكون…‼. »
يحكي عن رحلته القصيرة بمرارة ، ثم يعاوده صمت طويل ، فينزوي ليغازل (سبسيه) الفريد. كان إصرار( ماتيو) على شرب الخمرة قرارا لا رجعة فيه. وحين لا يجد ثمنا لذلك ، يكتفي بقنينات الكحول ، يخلطها مع الماء ليدوخ. أصبح (ماتيو) مرغوبا فيه ليكون نديما ، فيحكي عن فتوحاته الجنسية في المهجر، أو عن خصوماته مع أبناء عمومته‼.
لم يكن ذلك الصباح عاديا في حياة (ماتيو) حين ذهب لحرث أرضه. حمل ما يلزمه ، وتوجه للحقل يركب دابة ويجر أخرى . كانت كؤوس (الباسطيس) التي عرفت طريقها مبكرا إلى معدته في الصباح ، قد فعلت فعلها، وعطلت مفاتيح عقله ، فبدأت حنجرته تردد مقاطع غنائية بشكل عشوائي ، لا أول لها ولا آخر، ورائحة تزكم أنف كل من مر به. لم يكن بوجمعة أولهم ، ولا آخرهم . فبادره على الفور׃
 – » الحرث( بالباسطيس) آ (ماتيو)؟ ياك هذا آخر الزمن ‼.. »
– سر الله ينعل ….. »
رد عليه الحاج علي على الفور׃
-« حرام عليك يا بني…أتسب الدين …؟ من أين تأتي البركة إذن..؟…يا لطيف…‼ »
– . »….وهل لهؤلاء القرود دين يا عماه؟..أنا أسب دينهم ، وليس دين المسلمين… ».
ومع ذلك بقى (ماتيو) ذا أنفة وكبرياء. أعز نفسه لكن أذله الآخرون. أصبح رمزا للمثقفين في البلدة، ودما مهدورا للشباب الطامح للقفز إلى الضفة الأخرى .هو في نظرهم يستحق أكثر من العقاب ، بعد أن تمكن من قطع البوغاز ، ورجع خائبا بلا سيارة أو أوراق تمكنه من المكوث هناك ، بعيدا عن الفقر والقهر.
أصبح (ماتيو) معادلة صعبة ، يرى نفسه حرا طليقا ، بعد أن كان عبدا يتنقل بالأوامر بين الحقول، بينما يرى فيه الآخرون رمزا للإحباط ، وهدرا لفرص لا يجود بها الزمان إلا مرة في العمر‼. اعتقد الجميع أن إقامته هناك ستكون سهلة ، وزواجه بنصرانية سيكون أسهل، ما دام شكله يشبههم . لكن خاب أملهم ، ونسوا أن الشكل وحده لا يكفي.
رفض أناقة( الفرنسيس) وفضل أن يحلق كالنسر طليقا في فضاء بلدته. يلعن أوربا وما يأتي منها ، ويؤسس لنفسه عالما خاصا. يتأسف لحال المقهورين ، ولا يكف عن سب (المخزن) ومو ظفيه الصغار ، ما دامت ثقافته لا تسمح له بمعرفة ما يجري في عالم الكبار!. ولأنه يختلف عن الكثيرين ،ظل يؤمن بأن بلدته الصغيرة ، أكبر من رقعة جغرافية ، وأن الوطن أ غلى من رصيد في البنك!.
وحينما يسأله أحدهم ׃
 » هل أنت نادم على عدم عودتك يا (ماتيو)؟ « 
كان يرد بصدق و بساطة׃
 » كانت العودة الأخيرة، ولست نادما عليها… »
هوامش׃
الباسطيس׃ نوع من الويسكي الرخيص يهرب من اسبانيا
الحريك ׃(بتغليظ الكاف) الهجرة السرية إلى أوربا

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *