الشخصية وحق المجتمع

الشخصية وحق
المجتمع
أشار « برتراند راسل » أن ثلاثة من الأشخاص من مختلف القوميات قد طلب منهم أن يسجلوا ملاحظاتهم عن سلوك
الفئران عند إثارتها بشحنة كهربائية. فكتب الإنجليزي أنه رآها متثاقلة تتحرك في
تؤدة وتحفظ، وسجل الألماني ما أحدثته الشحنة من استعداد تلك الفئران للمقاتلة
والعنف، كما سجل الأمريكي ما أشاعته الشحنة من نشاط وحركة متصلة.
يستدل »برتراند » على تأثير النمط الإجتماعي على الملاحظة ومايتصل بها من
إدراك وتفكير، وأمثال ذلك كثيرة فيما يعرف بأخلاق الشعوب وما يتواتر في الملاحظات
أو الأحاديث العادية بين الناس عن اختلاف العادات والأمزجة والطبائع بين أمم
الأرض. فالشخصية التي ينشدها المجتمع لدى قبائل « الزونى » من الهنود
الحمر تتميز بالإعتدال في الأمور وإظهار المشاعر وضبط النفس والهدوء لذلك فهي
لاتشجع على التنافس والحكم بالإزدراء على كل من يحاول أن يفخر بنفسه أو مايسعى
للتميز عن الآخرين. فقد حاول المدرسون الأمريكيون أن تنمو روح التنافس كدافع من
دوافع التحصيل الدراسي لدى تلاميذ المدارس التي أنشأت لتعليم أبناء قبائل
« الهوبي والنفاهو » حيث أدى تشجيع التلاميذ في كثير من الحالات إلى
امتعاضهم من ألفاظ المدرسين التي تقارن بينهم وتحكم على فريق منهم بالإمتياز
وآخرين بالضعف. وفي القرن الخامس قبل الميلاد كانت أثينا تعجُّ بالشخصية المرنة
المحبة للإستطلاع والولع بالمناقشة والتحليل والرغبة في المشاركة في المجالس
العامة والمحاكم الشعبية. وكانت صفة الجدارة تتطلب الحس المرهف والإستمتاع
بالتناسق والتوازن فأصبحت « الهارمونيا » سمة استحقاق الرجل المعرفي. أما
المثل الأعلى لشخصية » الإسبرطي » فكان مخالفا ومن أهم عناصره الشجاعة
وقوة الإحتمال وضبط النفس ورياضتها. أما الرومان فقد كانت لديهم القدرة الخطابية من
الأمور الجوهرية التي قد ترجح كفة فريق على فريق.
هذا الشأن في بعض المجتمعات البدائية
التاريخية كذلك الحال في المجتمعات
الحديثة لكل منها نمطه الإجتماعي. فنجد المثل الأعلى للشخصية الإنجليزية هو
نمط »الجنتلمان » الذي جمع بين خصائص طبقة الفرسان في العصور الوسطى
ومقتضيات الإستعمار ومن مميزات هذا النمط ضبط النفس وعدم المبالغة أو الإسراف في
التعبير أو إظهار العاطفة. أما النمط الأمريكي فهو الذي يمجد الرجل العادي
والتفاؤل حتى في أحلك اللحظات وحب التغيير مع ميل لتظخيم الأمور دون تأمل حيث يغلب
على لسانه »دعنا نعمل شيئا » » هيا بنا نتحرك ».
من الإفتراضات في الدراسات
الإجتماعية أن لكل مجتمع نمط لشخصيات أفراده، يمثل الصورة الحقيقية لمجموعة من
السلوك والقيم فهي استجابات مقننة متواترة في مواقف معروفة يتوقعها المجتمع وتعمل
مختلف القوى والمؤثرات والوسطاء على تشكيل شخصية الفرد في إطار نمط اجتماعي، فعوامل التنشئة العائلية تؤثر في سلوك الناشئ
فيورد مواقف السيطرة التي يتعرض إليها مما يتيح له سوى الإذعان والرضوخ(**)، ومما
يدفعه بصورة لاشعورية إلى قبول آراء الآخرين وبخاصة من يمثلون مركزا اجتماعيا أو
حضوة، حسب ونسب كما يقال. حيث يوضح أسلوب
التخجيل وإشاعة الخجل لذى الطفل نتيجة لما يحكم عليه الآخرين على ما يرتكبه فينمو شعور داخلي ذاتي يتكون بسبب رأيه في نفسه
حيث يتعلم سلوك التمويه الإجتماعي والذي يؤدي إلى حجب الحقيقة أو الواقعة تفاديا
من العقاب ، ومن تم يترتب على هذا التمويه إزاحة المسؤولية وتفادي مواجهة الواقع
بثقة، أو اللجوء إلى النفاق والرياء والمسايرة والمداهنة في التواصل الإجتماعي
داخل مجتمع يلمّع صورة الإنسان اللبق والحذق. ثم تأتي الأسر الميسورة نوعا ما أو
ما يطلق عليها(الطبقة الوسطى) لتغرس علاقة جدلية مع المجتمع موسومة بالحذر والريبة
في التعامل، ومواجهة الحياة بصورة دفاعية ممزوجة بميكانيزمات الثرثرة والإسهال
اللفظي تعويضا عن الفعل والتأثير الإيجابي الذي يرى في أن تحل روح تأكيد وتعزيز
الذات محل الخضوع، وروح الإقدام محل المكر والحيل، وروح المبادرة محل التراجع والخنوع.
عقب تضافر الأبعاد التاريخية
والإقتصادية والإجتماعية تأتي القدرة على التكيف السريع، فباستطاعة الإنسان
المغربي أن يخالط الشرير والمجرم والشاذ و يعايش في نفس الوقت (ملائكة السماء
والأرض) دون أن يجد في ذلك نقصا حيث يتقبل الأمور في كثير من الأحيان دون ارتباك
أوحيرة ثم الشخصية العملية البلاغية والتي لاتثرثر كثيرا. مكالمة هاتفية :
« آلو نعم إنني آت.. ». ليس هناك مضيعة للوقت والإسراف في التواصل كما
يحدث في أقطار عربية أخرى. مكالمة هاتفية: » آآآللووو، والله كنت أفكر فيك منذ
دقيقة، كيف حالك، نعم بالمناسبة لقد تذكرناك أمس في المقهى، .. لقد صبغت سيارتي
وووووووووووووو….على العموم إنني آت لرؤيتك أتناسبك الساعة العاشرة أم الثانية
على العموم لدي الوقت…. ». إن أفضل مكان لامتحان الشخصية هي الأنشطة
الإقتصادية حيث يكثر القسم بالله ومحاولات المكر للأسف يعززها المجتمع ويحضى صاحبها
بالتقدير. مازالت صورة تلك الشخصية تصاحبني حين رأيت شخصا يبيع « دود الأرض
الأحمر » ملفوفا بطينه جاهزا لاستعماله في صيد الأسماك: خمس دودات بدرهم يضعها
في قارورات قام بجمعها وغسلها ووضع ثقب للتهوية.
فدور » شخصية الإزاحة والإسقاط
» الشخصية التي تحب السخرية على الجميع، إزاحة المسؤولية عن النفس وإسقاطها
على أمور خارج الذات حيث يتيسر له تبرير ما قد يقع له أو للمجتمع، المؤسف استفحال
شخصية الإسقاط والإزاحية فعلى هذا النحو يعتبر القيام بالواجب أو حتى الشعور به
أمرا مشكوكا في قيمته من قبل هذه الشخصية التي تلقي تبعة وضع ما على السلطة والكل
متآمر والكل خائن، فتختلط الشخصية الفاعلة للإسقاط بالتمويهية وهذا يحدث مثلا في
مجال الإعلام الذي حقق نجاحا لايمكن أن ننكره ألا وهو جعل الإدارة والسلطة والنظام
أعداء الفرد. فتشيع جمل مثل: »الكل يسرق » « التسيب في البلاد »
« نحن أواخر الترتيب »…. إسقاطات الإخفاقات الشخصية على الجار والشرطي
والمعلم والقاضي والإمام والجزار ..
تبرزكذلك الشخصية التي ينشدها الجميع
ألا وهي الشخصية المنتجة المؤكدة لذاتها التي تجعل من السلبية أمرا جد ثانوي
فتستهين بالصعاب وتتخطى الحواجز بالمثابرة والمصابرة مركزة على الإنسان وما ينشده
وإنارة الطريق أمامه متمسكة بموروثها، ناهلة من معطيات العصر. وهذه الشخصية هي
المنشودة الفاعلة التي تحدث الفعل لامجرد مفعولا تقع عليه الأحداث. مؤمنة بالممكن
وجاعلة من المستحيل مجرد مصطلح معاجم.
فيأتي الإسلام جامعا للقيم عبر الأمصار هداية للإنسان ولتعليميه وتنظيم حياته ودراية بالشخصية وأحوال
النفس وأسباب انحرافها ومرضها وطرق تربيتها وتهذيبها وعلاجها في إطار من الصحة النفسية السليمة
مدركا الصراعات التي يعيشها الإنسان في مواقف الخير والشر، نوع من البلاء الذي
يختبر به الله تعالى المؤمنين لصدق إيمانهم وقوة ثباتهم على التقوى، ولعل هذه
المعاناة في أمثال مواقف الإختيار بين الشر والخير هو جزء من الكبد الذي يعانيه
الإنسان في حياته الدنيا حيث قال الله تعالى « (لقد خلقنا الإنسان في
كبد) »سورة البلد الآية4 .
إن التعرف على ذاتنا والوعي بخصائصها
وسماتها السلبية ضرورة لازمة للحركية والتغيير محفزة للوعي لا لجلد الذات بل داعية نحو ثورة
قيم وإعادة تدوير للذات التي فقدت بوصلتها.
(**)Meed
G. Herbert, Mind. Self and Society, University of Chicago
عبدالقادر الفلالي-كندا-
Aucun commentaire