Home»International»حتى مقابرهم تعرف تنظيما محكما، وتخطيطا مدروسا، وعناية فائقة

حتى مقابرهم تعرف تنظيما محكما، وتخطيطا مدروسا، وعناية فائقة

0
Shares
PinterestGoogle+

المختار عويدي
حتى مقابرهم تعرف تنظيما محكما، وتخطيطا مدروسا، وعناية فائقة، وإنفاقا كبيراً، ما يجعلها تبدو في صورة غاية في الروعة. رغم كونها، كمقابرنا تماماً، مثوى للأموات. إن هؤلاء القوم يبرهنون من خلال كل ذلك، على اعتناء بالغ بكرامة مواطنيهم، حتى وهم أمواتا، تماماً كما كانوا مكرمين وهم أحياء.
رجاءً لا تجادلونني في مسألة الحلال والحرام فيما يتعلق بالتعاطي مع جثث الموتى بعد رحيلهم، وما إن كان بناء القبور واللحود فوقهم، وتزيينها والاعتناء بها جائز شرعا أو محرما. فهذا ليس موضوع هذه التدوينة. ولكن موضوعها هو التعريف بإحدى أماكن دفن الموتى في هذا البلد، ومدى حضور مسألة الاعتناء بالأموات وبأماكن دفنهم في ثقافة هذا المجتمع وتقاليده وعاداته. ومقارنة ذلك بما هي عليه الحال عندنا، لعل في ذلك ما يفيد.
زرت اليوم مقبرة Père Lachaise الواقعة في قلب مدينة باريس، في الدائرة العشرين. وهي من أقدم المقابر بالمدينة، افتتحت عام 1804. كما انها أكبر مقبرة بها، فهي تتربع على مساحة شاسعة، تبلغ حوالي 43،9 هكتارا. وبالنظر إلى قدمها وعراقتها وشهرتها العالمية، فقد سجلت ضمن لائحة الآثار التاريخية، كما تحولت إلى موقع سياحي، يزوره العديد من السياح سنويا، بما يقارب حوالي 2،5 ملايين زائر. وأكثرهم يأتي إليه للترحم على أسماء المشاهير المدفونين به، أمثال: بلزاك – شوبان – أوسكار وايلد – جيم موريسون – بيير بورديو – دولاكروا – موليير – ألفونس دودي – مارسيل بروست – إيديت بياف…
لقد هالني حقاً ما رأيت لدى ولوجي إلى الفضاءات الداخلية لهذه المقبرة، من تنظيم فائق محكم. وتخطيط هندسي بديع، يجمع بين الجمالية وروعة التصميم.
تصميم تتوزع بموجبه المقبرة إلى ممرات وشوارع رئيسة وأخرى فرعية. جميعها مبلطة ومرصفة، تحفها الأشجار على طولها من الجانبين. وقد أطلق على كل واحد منها، إسم له دلالة ومغزى معين. وتمتد القبور واللحود على جوانبها في تناغم وانتظام، من دون تراكم أو ازدحام، ولا عشوائية أو فوضى. ناهيك عن وجود ساحات ومساحات خضراء وأماكن استراحة، تنتشر بها كراسي عمومية. وتنتهي بعض الممرات والشوارع، بسلالم تربط بين جميع الأماكن مختلفة الارتفاع من المقبرة.
تنعم مقبرة Père Lachaise عكس مقابرنا بالهدوء والطمأنينة والسكينة المخيمة، حيث لا مجال للغرباء أو المتطفلين، سوى من زوار يأتون لزيارة وتفقد قبور موتاهم، ويضعون عليها باقات الورد وأكاليل الزهور، ثم يؤدون صلواتهم وينصرفون على عجل، مخلفين وراءهم السكون والسكينة، لساكنة هذه المدينة النائمة المطمئنة. إضافة إلى جماعات السواح القادمين إلى المكان لإشباع فضولهم المعرفي، ونهمهم الثقافي، والترحم على مشاهيرهم. لا مكان فيها للشعوذة أو التمسح بالقبور أو البكاء أو العويل، أو مختلف الطقوس التي ترافق زيارتنا نحن لمقابرنا، فللمكان حرمته وقداسته.
من المرافق المثيرة التي تضمها هذه المقبرة، والتي أدهشتني زيارتها، هي: Crématorium، وهي محرقة الجثث، حيث يتم حرق جثث الراغبين في ذلك من أهل الموتى. و Columbarium وهو مكان تخزين الجرار الجنائزية، التي تضم رماد الجثث المحروقة (ربما سأعرفكم في تدوينة لاحقة بهذه المرافق المثيرة).
وأنا أتجول في أرجاء المقبرة، مستكشفا مرافقها وفضاءاتها الجميلة، تذكرت بمرارة وأسى عميق، ما هي عليه حال مقابرنا من إهمال ولامبالاة وفوضى، وتكدس عشوائي للقبور فوق بعضها وتراكم للأزبال، حتى قد تحولت إلى ما يشبه مطارح القمامة، من فرط تراكم القاذورات والمهملات. مقابرنا التي أضحت مسرحاً لجميع أنواع الانحرافات والممارسات الشاذة، من قبيل أعمال الشعوذة، والسحر، والتسكع، ومعاقرة الخمرة، وقطع الطريق، والتسول… حتى قد أصبحت ملاذا وملجأ لكل أفراد حثالة المجتمع، من مشردين، ومشعوذين، ومتسولين، وسحرة، ودجالين، ومتاجرين بالذكر الحكيم.. ما يجعل مقابرنا عرضة للتسيب الشامل، حتى أن جثث الموتى، أصبحت لا تسلم أحياناً من عبث العابثين. مقابرنا التي أصبحت في المجمل منتدى للمنحرفين والمعتوهين والمشردين..
أحسست وأنا أغادر المقبرة، كما لو أنني كنت في نزهة جميلة داخل منتزه فائق الجمال. ولا عجب، فمدينة الأموات هذه، بفضاءاتها الخضراء وشوارعها المبلطة المرصفة المرقمة، والهندسة الجميلة لقبورها ولحودها، والقطع الفنية التي تزينها، من تماثيل ومجسمات ولمسات فنية، ناهيك عن باقات الازهار والورود المتناثرة فوقها، تضاهي مدن الأحياء في رونقها وجمالها وتنظيمها، بل تتفوق عليها في شيوع السكينة والهدوء في أرجائها. إنها متحف مفتوح على الهواء الطلق، من فرط ما تحتويه من تماثيل رائعة، ولحود متقنة الهندسة والإبداع، وقطع فنية كثيرة جداً، تنتمي كلها إلى الفنون الجنائزية. وهي أيضا موقع بيئي بامتياز في قلب العاصمة، تضم أكثر من 5000 شجرة مختلفة الأنواع والأعمار، ناهيك عن أنواع الأعشاب والورود والزهور، التي تزين القبور والساحات والفضاءات المختلفة.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. متتبع -
    09/01/2020 at 23:51

    المقابر عندنا في وجدة المدينة تنظف في الحملات الانتخابية و يقام لها اشهار خاص ومعروف صاحبها لدى الخاص والعام . اما عن تداخل القبور وعدم وجود ممرات فحدث ولا حرج . ثمن الدفن والبناء غير معروف والويل لك اذا اردت بناء قبر لوحدك دون تدخل من مافيا المقابر . لقد اوصيت بعدم البناء على قبري حتى اكون بعيدا كل البعد عن ايادي هؤلاء غير النظيفة والذين عاينتهم عن قرب .
    – ملحوظة : مقبرة مدينة بروكسيل جنة فوق الارض .

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *