وصية عبد الوهاب المسيري(1)
الوصية هي إنابة من نثق فيه، أو توكيله، أو أمره بالتصرف في شيء هام نملكه ونحبه، أو العهد له بنشر دين، أو معتقد، أو فكرما، بعد الموت، لكوننا نريد أن نصل الحاضر بالمستقبل، ونظمن استمرار يته. والوصية ظاهرة إنسانية، تعامل معها الإنسان منذ أن وجد.فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يوصي أبناءه ، كما هو ثابت في الآية الكريمة :{ يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }(سورة البقرة آية 132).وسيدنا يعقوب هوا لآخر أوصى أبناءه قبل موته كما جاء على لسانه في قوله تعالى: { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون }(سورة البقرة آية 35). وسيدنا لقمان الحكيم لم يخرج هو الآخر،عن هذه القاعدة إذ أوصى ابنه قبل موته بقوله :- كما هو واضح في الآية الكريمة – { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر وصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور } ( سورة لقمان آية 13- 18)
لا يهمني في هذا المقال، الجانب الشرعي للوصية ، كقواعد الوصية – وشروطها – وأنواعها أو أقسامها ، وهل هي واجبة ، أم مستحبة … فذلك اختصاص، ومجال آخر، له أهله وأصحابه. إنما أريد ،أن أتحدث بالتحديد عن وصية عبد الوهاب المسيري، التي تضمنها آخر مقال له قبل رحيله رحمه الله :( الإنسان والشيء )
لقد اتخذت الوصية أشكالا مختلفة عبر التاريخ ، فمرة تكون بأسلوب الأمر : يوصيكم الله في أولادكم .. – وامر بالمعروف – وانه عن المنكر – واصبر… أو النهي : لا تشرك بالله – لا تصعر خدك …) ومرة تكون عن طريق الترغيب والترهيب (إن الشرك لظلم عظيم – إن الله لا يحب كل مختال فخور – لا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وأخرى عن طريق السؤال الاختباري ، الذي يهدف إلى معرفة النوايا. (ما تعبدون من بعدي ؟. ..) أما وصية عبد الوهاب المسيري رحمه الله ، فكانت بأسلوب جديد ، وطريقة لم نعهدها من قبل. سميتها :[ الوصية عن طريق تشخيص الواقع ] .فانطلاقا من تجربته الواقعية ، التي مكنته من تمحيص الدعوة ،وانطلاقا من شعوره ، بأن العولمة تسعى إلى تجريد الإنسان من إنسانيته ، وتحويله إلى مجرد شيء من أشياء الطبيعة ، ووعيا منه ، بأن الإنسان كائن عاقل ، متميز عن غيره من الكائنات ،اصطفاه الله ليكون خليفة في الأرض ، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا ، وذلك بتحميله للأمانة ،والرسالة ،و تكليفه بالتوحيد ، والعبادة الخالصة لوجه تعالى …رفض المسيري هيمنة الجانب المادي ، أو الفكر والرؤية المادية ، على الإنسان الذي كرم الله . كما رفض حركة تدمير القيم والأخلاق ، تحت شعار العولمة أحيانا، والديمقراطية ، أو حقوق الإنسان أحيانا أخرى . صحيح أن الإنسان خلق من طين ،وأصله يعود إلى هذه الطبيعة المادية ، و هو جزء منها، يعيش من خيراتها ،ويؤثر فيها ، ويتأثر بها . ولكنه في النهاية، ومهما كان الأمر، لا يخضع ولا يرد إليها في كليته. فهو مكلف ، والتكليف ، يقتضي العقل و الحرية ، والحرية تترتب عنها المسؤولية ، والمسؤولية ،يتبعها الحساب .{ وقفوهم إنهم مسؤولون مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون } (سورة الصافات آية 24-26) . فالإنسان يومئذ يحاسب عن أفعاله، و أقواله ، وأفكاره ،وأمواله، وأخلاقه … أما الطبيعة وأشياؤها فلها مآل آخر.
لقد عز على الدكتور المسيري أن يرى الإنسان يتحول إلى أشياء ، ويربط مصيره بمصيرها ،بل يتمنى يوم لا ينفع مال ولا بنون ، مصيرها. { إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } ( سورة عم – النبأ آية 40-41) . ومن ثم بادر قبل موته رحمه الله، إلى توصية الإنسان ، و تحذيره من التحول، إلى شيء ماديي، أو تابع للمادة الطبيعية، فاقد لاستقلاليته .
ينطلق المسيري في بداية وصيته ، من مسلمة [ نحن نعيش في عالم يحولنا إلى أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز الحواس الخمس.] صحيح يعيش الإنسان المعاصر في عالم يحوله إلى أشياء ، ولا يسمح له باستعمال عقله ، ساجنا إياه في دائرة الحواس الخمس ، عبدا ذليلا ،خسيسا ،خاضعا لوحش العولمة ، مقيدا بشهوة البطن والفرج . وهذا واقع نعيشه، لا يمكن غض الطرف عنه أو تجاوزه.إن تحويل الإنسان إلى أشياء مادية اعتمد على عدة آليات ،أوميكانيزمات مادية ، أسميها آليات المسخ .منها :
(1) اللباس الذي فقد وظيفته الأساسية التي هي الستر { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير } ( الأعراف آية 26). ، ومكن الشيطان من كشف سوءة بني آدم، كما فعل مع أبيهم آدم، وأمهم حواء من قبل.{ يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما …} (الأعراف 27) . وكشف السوءة هي أول معصية ارتكبها الإنسان، وأول نصر حققه الشيطان على الإنسان، و هي أيضا ، أول مطية ركبها الشيطان ليحقق ما يريد من فساد.فإنسان اليوم بعد أن تعرى ، سهل تجريده من شخصيته وكرامته ، وبالتالي التمكن منه ، و تحويله إلى سبورة إعلانات متحركة (شيء) ، تخدم شركة كوكاكولا ، أو شركة التبغ ، أو أي شركة تريد تسويق منتوجها أو الدعاية لتجارتها …إن اللباس الغير الساتر ،بتعبير الدكتور المسيري :[ اليتي شورت أصبح آلية كامنة من آليات تحويل الإنسان إلى شيء .] (يتبع)
Aucun commentaire