مع البروفيسور ادوارد سعيد،في الاستشراق
رمضان مصباح الادريسي
الحلقة الأولى:
توطئة:
ان التهافت الغربي الكبير على كتاب الاستشراق،وترجمتَه الى عشرات اللغات ؛تقابلُه،مع الأسف، محدوديةٌ كبيرةٌ في الاقبال عليه من طرف القارئ العربي العامِّ.لقد ظل ،منذ ترجمته المتأخرة الى اللغة العربية،حَبيسَ الدوائر الأكاديمية ؛وهذا مُستغربٌ جدا ،لأن الشرقَ ،موضوع َالاستشراق،هو شرقُنا نحن؛فكيف لا ينْتَشر بيننا هذا الكتابُ المِفْصَلي ،الانقلابي؛الذي يدفع في اتجاه ِنهضَة معرفية شرقيةٍ اسلامية ، تتحدثُ هي عن نفسها ،بدلَ ترك الآخر ،المُغرض ،يفعل ذلك؟
وأقدم في الآتي قراءة على حلقتين لكتاب:
– الاستشراق-
المفاهيم الغربية للشرق
ORIENTALISM :WESTERNE CONCEPTIONS OF THE ORIENT
تأليف: البروفيسور ادوارد سعيد
ترجمة: د محمد عناني
دار بنجوين العالمية.عام
مجرد المعرفة بمصر ،تبرر احتلالها:آرثر بلفور
نحن الآن في يوم 13 يونيه1910؛يقف في مجلس العموم البريطاني رجلٌ داهيةٌ؛برلماني عَرِكته السياسةُ زمَنا،وتقلد عدةَ مناصب سياسية مرموقة سابقا.
قضيته اليوم لا تخرج عن كل قضاياه الاستعمارية:
تنبيهُ الحكومة الى تَمَيُّز المشاكل التي تعترض احتلالَها لمصر- منذ1882- عن مشاكل بقية مستعمراتها؛وفي نفس الوقت الردُّ على النواب الذين كانوا يرون ألا فائدة من وجود بريطانيا في مصر؛ وخصوصا النائب الذي وجَّه اليه السؤال المحرج الآتي:
« بأي حق تتخذون مظاهر الاستعلاء والتفوق،ازاء الشعوب التي اخترتم أن تسموها شرقية؟ »
بعد أن يؤكِّد بأنه يعرف جيدا حضارة مصر،الموغلة في التاريخ ؛والتي كانت تعيش شبابَها الحضاري ،حينما كان الجنس الذي ينتمي اليه،هو، يعيش في ما قبل التاريخ؛ينفُذ الى عُمق فلسفته الاستعمارية ؛حيث يربط تلقائيا – بمنطق استعلائي غريب -بين المعرفة والسلطة؛تبريرا لوجود بريطانيا في مصر:
نحن نعرف حضارة مصر جيدا،و هذه المعرفة تخول لنا التواجد هناك،مُسيطرين على ما نعرف؛وتفرض علينا أن نرفض استقلال ما نعرف عنه كل شيء.
نعم بهذا المنطق الاستبدادي الذي رتَّبه الاستشراقُ تصبح مجرد المعرفة بمصر مُبررة ًلاحتلالها؛وهذه المعرفة عند بلفور هي مصر في حد ذاتها؛أما مصر كما هي في الواقع فلا تهمه.
هذا المنطق متبادل بينه وبين « اللورد كرومر » ،القنصل العام البريطاني بمصر،الذي يؤكد على حتمية انتاج المعرفة للسلطة:
» ان المعرفة بالأجناس المحكومة،أو بالشَّرقيين، هي التي تجعل ادارةَ شؤونهم يسيرةً ومُربِحة؛فالمعرفة تأتي بالسلطة ِ،وزيادةُ السلطة تتطلب زيادةَ المعرفة ؛وهكذا دواليك في جدليةٍ من المعلومات والتَّحكُم تزداد فائدتها باطِّراد. »
ويواصل بلفور حِجاجَه باعتبار وجودِ بريطانيا في مصر خَوَّل لها ،لأول مرة في تاريخها،حُكما ذاتيا ،يقطع كلية مع ألاستبداد وعليه فالسلطةُ التي أنتجتها المعرفة ،تشتغل لصالح مصر والمصريين.
ويُوسع هذا أكثر وهو يعتبر أن وجودَ بريطانيا في مصر فيه فائدة لكل الغرب المتحضر.
ويصل الى ذروة الاستعلاء ،مستندا الى الطرح الاستشراقي الأكاديمي؛حينما يُقرر بأن مصر الحقيقية، هي التي تبدأ مع الاحتلال البريطاني؛وهذا واضح من تعريفه لمصر بكونها « البلد الذي احتلته انجلترا،وتحكمه الآن ».
هكذا نلاحظ، أنه ينقلب حتى على منطلقاته ،حيثُ يُقر لحضارة مصر بالعَراقة .انه » انقلاب السياسة المغرضة على العلم؛هكذا يشتغل الاستشراق ».
كما استنتج ادوارد سعيد.
صورة الشرق ،هي ما نرسمه نحن لفائدتنا:
هذا مخطط غربي قديم جدا،يرتد الى اليونان والرومان؛ونقتصر هنا – كمثال – على نموذج « الكوميديا الالهية » ،لدانتي ؛حيث يَتمُّ رسم صورة للشرق ،من مُنطلق مسيحي استعلائي ،يضع فيه المؤلفُ كلَّ من خالف عقيدته في حلقة من حلقات النار العشر.
بالنسبة للإسلام يُقرر هذا المصيرَ حتى لنبينا صلوات الله وسلامه عليه ،ويضيف شخصياتٍ فكرية وسياسية أخرى:
ابن سينا،ابن رشد وصلاح الدين الأيوبي. ويقرر هذا المصير أيضا ل:أفلاطون ،سقراط وأرسطو،وان كان في مرتبة من جهنم أرحَمَ ،لجهلهم بالدعوة المسيحية. انه الايمانُ المسيحي في مواجهة الآخر الكافر؛وخصوصا المسلم.
هكذا ابتدأ الاستشراقُ القديم؛قبل أن يخرج عن هذا الاطار لخدمة أغراض سياسية دنيوية.
قبل أن يشرع الاستشراق في انتاج الصور التي يريد ،أنتج أدواتِه ،لغتَه ، بلاغتَه ،واستعاراتِه ؛حتى استوى –كالسِّحر والأساطير – عالما مُغلقا ،ما أن ينتج الصورة َحتى يبتلعها ،ولا يكون لها وجودٌ خارج مقولاته.
وصولا الى هنا نكون ازاءَ حالة سيكولوجية مرضية ،سببُها الاستعلاءُ؛أكثرَ من كوننا ازاء عِلم بمناهجه وأدواته.
من حقي أن أرسم لك الصورة التي أريد ،وليس صورتَك الحقيقية؛ويجب عليك أن تعترفَ بألا صورة َلك خارج ما رسمتُه لك.
هل هذا علمٌ،أم حالةُ هذيانٍ حضارية؟
» ان المستشرق يجعل عملَه ينصب دائما على تحويلِ الشرق من شيء الى شيء آخر:وهو يفعلُ هذا من أجْله ،ومن أجل ثقافتِه،بل ويعتقدُ في بعض الأحيان أنه من أجل الشَّرقي .وهذا التحويلُ يتسم بالانضباط ،فهو يُدَرَّسُ للآخرين ،وله جمعياتُه الخاصة،و مجلاَّته الدورية. » ا.سعيد.ص:135
اكتَست هذه المعاييرُ الغربية طابَعا خاصا في ما يتعلق بالإسلام والمسلمين ؛فرغم أن الاستشراق امتد الى شعوب خارج الخريطة الاسلامية –الشرق الأقصى- إلا أنه في مواجهة الاسلام ابتكر أعتى مناهجه وأدواته وصوره ، لاعتبارات منها:
الاحتكاكُ الجغرافي الذي ظل مصدر رعب للغرب. اعتبارُه ،في نظره، مجرد مروق عن اليهودية والمسيحية. ويضاف الى هذا قضاؤه على الامبراطوريتين الرومانية والفارسية .
وباختصار شديد يتعلق الأمرُ بصراع بين نِدَّين بقُوتين متكافئتين ،تنتمي احداهما للماضي – تعاقبُ عليها حاضرا -ولا طموح لها اليوم في منازلة الغرب؛و تنتمي الأخرى الى الحاضر ،وكلُّها تَحَفُّزٌ وعُنفوانٌ للسيطرة على الآخر .
طبعا يمر كل هذا عبر انضباط صارم للطرح الاستشراقي –مهما تباينت أمم الغرب، اليوم واختلفت في قضايا أخرى-وعبر مراكز بحث أكاديمية وجمعيات ومجلات .
ويبقى أخطرُ سلاح في معارك الاستشراق ،هوبعضُ أبناء ِالشرق أنفسِهم ،الذين تغربوا؛حتى لم يعد لهم وجودٌ خارج الصورة التي ارتضاها لهم الغرب.
.
ان الشرق محظوظ ٌ،باكتشافِنا له:
تستند التيارات الفكرية التي تحكمت في الاستشراق الى عناصر أربعة: التوسُّع . المواجهة التاريخية . التعاطف والتصنيف.
نتوقف هنا عند التصنيف ،الذي سيتحكمُ في اِفْرادِ الانسان الشرقي بصفات مُحددة – حقيقية أو متخيلة- لقَولبتِه ضمن نمط مُتخلف ،يحتاج الى اعادة التشكيل والتطوير.
لقد ابتدأ التصنيف علميا صرفا،واشتغل على النباتات والكائنات ؛لكنه وسَّع اشتغالاتِه وصولا الى تصنيف الانسان،فِسيولوجِيا وأخلاقيا .
من هنا مقولات:نمط الانسان الفطري،الآسيوي ،والأوروبي.
ومن هنا أيضا: وصف الأمريكي بأنه أحمرُ ،سريع ُالغضب،منتصبُ القامة؛ والآسيوي بكونه أصفرَ ،كئيبَ المزاج مُتصَلِّب القامة؛والإفريقي بأنه أسودُ اللون،بليدُ الطَّبعِ،متهاونٌ ومُنحَلٌّ.طبعا ما قال علماء التصنيف بهذا إلا ليجعلوه قَدَرا وراثيا يتحكم في الأجناس البشرية ،يرفع من شأن هذا الجنس (الأوربي،الآري)،ويزري بالآخر(الشرقي ،الافريقي)
وانقلب مفهوم السلطة ألاستعمارية لتصبح خلاصا للأجناسِ المُصنفة بدائيةً ومُتخلفةَ.
« كان المستشرقُ الحديثُ يرى نفسَه بطلاً ،يُنقذ الشرقَ من العَتَمة والاغتراب والغرابة؛ويرى أنه هو الذي نجَح في ادراك ذلك.فبُحوثُه أعادت تكوينَ ما فُقِدَ من لغات الشرق،ومِن أخلاقِه وطرائقِ تفكيره،مثلما أعادَ شامبوليون تكوين الحروف الهيروغليفية من حجر رَشيد. » ا.سعيد:209
(حجر رشيد ،من آثار الفراعنة،وهو يتضمن مرسوما ،صدر عن بَطلَيموس الخامس، في مَمْفيس سنة196 ق.م)
مَثلت حملةُ نابوليون على مصر- م1798،1801- الخبرةَ الميدانية الأولى لهذا الاستشراق الحديث ؛وقد برز روادُه المؤسسون: رِينان،دوساسي ، ولِين.
وفي تفاصيل الحملة نماذجُ من اِبهار المِصريين بمنتجات العلم،المدنية والعسكرية؛وعلى رأسها الطباعة .
بدءا من احياء اللغة القديمة الميتة ،ووصولا الى اعادةِ بناء كل الشرق القديم المُهمل ؛لم يكن كل هذا إلا لتذليل السبل صوب الاكتساح الشامل للشرق،وحضارته .
يتبع
Aucun commentaire