Home»International»غرناطة بين وثيقة التسليم ومحاكم التفتيش

غرناطة بين وثيقة التسليم ومحاكم التفتيش

3
Shares
PinterestGoogle+

أحمد الجبلي
لازالت الاحتفالات الإسبانية بسقوط غرناطة تترك صداها في الإعلام الغربي والعربي، فالغرب يتعامل معها بزهو وفخر ليس لأن العديد من الدول الأوربية قد كانت شريكة في الحروب التاريخية التي استهدفت القضاء على الإسلام من الأندلس كألمانيا وإيطاليا وفرنسا البرتغال والبابا،  وإنما  لاندحار المسلمين وسقوط آخر قلاعهم وتسليم مفاتيح غرناطة من طرف محمد الصغير لفرديناند وإيزابيلا.
إن عميلة التسليم قد تمت على أساس وثيقة ضمت سبعا وستين شرطا، ولإعطاء مصداقية أكبر لهذه الوثيقة تم إحضار البابا ليكون شاهدا عليها، ويكون أحد الأطراف الموقعين عليها، مما سيجعل الطرفين يلتزمان بالعمل  وتطبيق جميع بنود هذه الاتفاقية. وقبل الحديث عن مصير هذه الاتفاقية لابد من ذكر بعض بنودها حتى يتعرفها المسلمون ويتعرفوا أصل بداية محاكم التفتيش في بلاد الأندلس.
من أهم البنود التي ضمتها الاتفاقية اتفاقية التسليم أذكر:
تأمين المسلمين على أنفسهم وأهلهم وأموالهم.
إبقاء المسلمين في أماكنهم ودورهم وعقاراتهم، وإقامة شريعتهم على ما كانت عليه، وأن تبقى المساجد كما كانت، ولا يقهر أحد على ترك دينه،  أن لا يمنع مؤذن ولا صائم ولا مصل من أمر دينه، وأن يسير المسلم في بلاد النصارى آمنا على نفسه وماله، وأن يطلق جميع أسرى المسلمين، وأن يكون لهم الحق في الخروج إلى إفريقيا بأموالهم وأولادهم متى شاؤوا…
وافق المسلمون على هذه الشروط، اضطرارا، وسلم محمد الصغير آخر ملوك غرناطة بسفح جبل الريحان لفرديناند وإيزابيلا مفاتيح المدينة في الثاني من يناير 1492، فوقف يودع مجده الذي ضاع وملكه الذي زال، وهو الذي رفض الجهاد ودخل في معاهدات متكررة جلبت عليه هذا العار، فلما رأته أمه على هذه الحال قالت له:  » ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه كالرجال » فنزل محمد الصغير إلى فاس مع أهله وذويه وبقي هناك يعيش على عطايا المحسنين إلى أن مات.

ورغم أن وثيقة الاتفاقية قد وقع عليها ملك إسبانيا والبابا حتى تكون ضمانة للمسلمين، فإن ما كان يضمره هؤلاء أكبر من أن يتصوره أحد لا ملوك غرناطة ولا المسلمون أنفسهم، حيث أطلق العنان لمحاكم التفتيش التي يشرف عليها الرهبان المتعصبون ليصدروا قرارات جديدة خطيرة يذكر أحدها مؤرخ  ديوان التحقيق الإسباني الدون لورنتي وهي وثيقة من أغرب الوثائق القضائية، حيث تضمنت قواعد وأصول وبنود تحدد طريقة التعامل مع هؤلاء المسلمين بعدما يرغمون على الدخول في النصرانية مكرهين، وتحت المراقبة المشددة مع تحديد جميع التصرفات والسلوكات التي إن فعلها المسلم  يحال على أقبية التفتيش في الكنائس حتى تكسر عظامه ويقطع بالمناشير ويعرض على آلات القتل والفتك وشفط الأجسام وتقطيع الأوصال واستعمال أقفاص الفئران والنار حتى تبقر البطون وتستخرج الأحشاء…
إن تهمة الكفر والخروج عن النصرانية تلصق بكل مسلم في حالة إذا امتدح دينه أو نبيه، أو قال: يسوع المسيح ليس إلاها، ليس إلا رسولا، ويجب على كل نصراني أن يبلغ عن ذلك، كما يجب عليه أن يبلغ  عما إذا رأى أو سمع أحدا يباشر بعض العادات الإسلامية كأن يحتفل يم الجمعة، أو يرتدي ثيابا أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلا باسم الله، أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة أو يقول: يجب ألا يعتقد إلا في الله وفي رسوله محمد،  أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان، ويتصدق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر (السحور) أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة، بأن يوجه وجهه نحو الشرق، ويركع ويسجد، ويتلو سورا من القرآن، أو أن يتزوج طبقا لرسوم الشريعة الإسلامية، أو أن ينشد الأغاني العربية…
وقد يقول قائل ما الذي يمنع هؤلاء المورسكيين من أن يهاجروا إلى البلاد الإسلامية الأخرى، نخبره أن إيزابيلا قد سنت قوانين جديدة دائما خرقا لاتفاقية التسليم، فاشترطت شرطان أساسيان لكل من أراد أن يغادر إسبانيا من المسلمين، وهما أن يدفع مبالغ طائلة من المال وهو في حقيقته شرط تعجيزي أي حتى يبقى المسلمون هنا يذبحون ويقتلون، والشرط الثاني أن يتركوا أبناءهم هنا في الأندلس، وهما شرطان لا يمكن القيام بهما.
خلاصة القول لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة حياة النصارى ولا اليهود عندما ينتصر المسلمون، فالوثيقة العمرية في القدس لاتزال شاهدة على الأنموذج المستحيل في التعامل مع الآخر من غير الدين الإسلامي كيف يؤمن على دينه وأمواله وأبنائه.
وإننا لنستغرب كيف يمكن أن نصدق المواثيق التي تصدر عن هذا الغرب المسيحي الذي لا يرقب في المسلمين إلا ولا ذمة، وكيف ننسى طبيعته ولازلنا نوقع معه المعاهدات تلو المعاهدات، إن تاريخ الأندلس نفسه يشهد على أن الغرب الصليبي نقض جميع الاتفاقيات التي كانت تبرم معه بعد هزائمهم المتتالية، وبمجرد أن يستجمع قواه يعود لخرقها كما فعل ألفونسو الثامن مع أبي يسف الموحدي، وفي بلاد المشرق كما فعل الأمبراطور الروماني  نقفور مع هارون الرشيد…ولكن في كل تراجع ونقض للمعاهدات وإعلان الحرب مجددا كانوا يجدون المسلمين في كامل الجهوزية ولسان حالهم يقول:  » وإن عدتم عدنا »، فمن المؤكد أن المستقبل من خلال التعايش مع الغرب الصليبي الذي لازال يحتفل بسقوط حضارتنا  ويربي أبناءه على كرهنا ومقتنا، غير مضمون العواقب، ولهذا يحق لنا أن نسائل أنفسنا ماذا أعددنا لهذا المستقبل  من قوة وفكر ومعرفة حتى نفرض نمطنا نحن لأنه النمط الوحيد الذي يتميز بالسلم والأمن والإيمان بالتعايش مع الآخر مهما كان دينه ومعتقده.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *