قضاءٌ يتوضأ بالعِفة؛ويُصلي للعدل

رمضان مصباح

« هذا أوانُ الشَّدِّ« :
اتخذ الفسادُ لنفسه بطاقة وطنية،تُخول له المواطنة ،وكل ما يترتب عليها من حقوق؛وأهمها الولوج الى خدمات كل المؤسسات الوطنية،العامة والخاصة.
ولهذا حيثما وليت وجهك ،في البر والبحر –وحتى في الجبل – تصادفه ،مداهما بخشونة ،تَفتح له جميع اأبواب ،التي سُدت في وجهك ؛وفي جيبيكما بطاقةٌٌ واحدة؛لا شِيَّة فيها تميز هذا عن ذاك.
قالها جلالة الملك ذات خطاب: »الكل فاسد » ؛و ربما لم يُخمِّن وقتها أحد بأن هذا الاعتراف ،مؤذنٌ بوطأة ملكية قادمة ؛لن تخِفَّ إلا ووجه الوطن خالٍ من كل البثور.
ولن تستثني أحدا ؛إلا من ثبتت جديتُه وعِفته ونزاهته.
ان الملفات المفتوحة ،اليوم،أمام القضاء ؛قطفت من كل الحدائق:
الوزارات ،البرلمان ،المجالس الجهوية والإقليمية ،الجماعات الحضرية والقروية ،الجامعات ..ولم توقر أي سلطة من السلط ،إلا واقتنصت وستقتنص الفاسد فيها.
عمل تطهيري مؤسسي ،وفي اطار القانون البارد والهادئ.
هبة ملكية صارمة ،بدون ضجيج ولا تعييش؛مُستحقة لهذا الوطن الغالي الذي يحفر بالأظافر موقعَه ضمن نهضة الأمم ،منتصرا وشامخا ،بعدالة كل قضاياه.
من رآها فقد رآها ،ومن لا فقذى بعينيْه ،أو بها عُوَّارُ..كما عبرت الشاعرة الخنساء.
ولا نامت أعين المفسدين ؛حتى يصبحها على الحق القضاء العادل والعفيف.
مفهوم العفة:
“لغة: هي مصدر عفَّ، يُقال: عَفَّ عن الحرام يعِفُّ عِفَّةً وعَفًّا وعَفَافَةً أي: كفَّ، وأعَفَّهُ الله، واسْتَعَفَّ عن المسألة أي: عفَّ، وتَعَفَّفَ: تكلف العِفَّةَ، والعِفة الكَفُّ عما لا يَحِلُّ ويَجْمُل، والاسْتِعْفاف طلَبُ العَفافِ”.
العدلُ ملكٌ:
وهذا أقوى من جعله أساسا فقط، حتى بدا لبعض القضاة الفاسدين -بإغراء من المتقاضين طبعا وضعف الرقابة- أنهم في سافلة عمارة الملك، وليس في واجهتها.
وربما من هنا قضاءُ الخفاء؛ أو “من تحتها” كما عبر أحدهم، مزهوا ببيضة المنصب في عُش الدولة.
الاشتغال تحت تحت؛ ألا تَعتبر مقولةُ “العدل أساس الملك” القضاة مجرد عمال حفر الأسس، وليس إعلاء البناء.
لا يا سادة، العدل هو قلبُ الملك، ومِعماره الكامل، وواجهتُه.
يحكم القاضي واثقا من نفسه باسم صاحب الجلالة، وتتضمن أن به “مسا” من الملك، تلبسه وهو يراجع القانون، ثم وهو ينقُد الأدلة، ويَعجِم عيدان الجزاء.
وكأني بمفسدي القضاء لا ينتبهون إلى كل هذه الأمانة العظمى، وهم يُحكِّمون إغراء المال في مُلك هم منه وهو منهم.
يا لهول الفضيحة أن تقايض نصيبك من المُلك، بمال حرام، لن تقدر على إخفائه مهما اجتهدت؛ إذ “تأبى الدراهم الا أن تُخرج أعناقها” كما أكد الفاروق عمر رضي الله عنه.
وطوبى لك إذا كنت من صناع فرحة العدالة، تراها على وجوه من تَحَيَّفهم الظلمُ؛ وهي بعض من نور الملك الذي حزته قاضيا بظهير قلبي قبل الورقي.
ويا لهول بثُقل الجبال إذا خذلت وزيفت وعدَّلت ظلم الظالم، تنتصر له طماعا مكابرا، تطأ بقدميك الهمجيتين جمجمة المظلوم.
وهذا تصرف أرعن حتى في حق ما وَلِيكَ من مُلك؛ أنت منه وهو منك.
ويمضي الظالم مزهوا بقضاء ظالم نزل، ينظر شامتا إلى جمر يتهاوى من عيون مكلومة.
طبعا هو لا يعي أنه اقتطع هذا الحكم من معمار الملك، وسود بعضا من زجاجه حتى يعتم نوره.
ولن يستحضر أنه، في هذا، كمن “قتل الناس جميعا”.
أكل هذا في القضاء؟
نعم وأكثر؛ سواء احتكمنا إلى فقه الولاية الإسلامي، أو فلسفة ومفردات العقد الاجتماعي -أساس الدول الافتراضي- كما نظر له رجاله الغربيون، أو روح القوانين.
ان القضاء -كما التعليم- ليس وظيفة؛ إلا من جهة تنظيمه الإداري الضروري؛ وحتى لدى السلف، كان يحوز في جسم الدولة الإسلامية بكل مراتبه مكان الصدارة، الذي لا يقتعده غير العلماء الأكفاء والفضلاء.
وكثيرا ما تهيب العلماء القضاء ورفضوا توليه، من هول مسؤوليته. ومنهم من جلد وقهر وما لان.
وكما كان معمارا للملك وبابه ونوره -حال الاقتدار والعفة والنزاهة- توالى منه أن يكون المبتدأ في انهيار الدول، حينما يسوء ويفسد.
أقضاة ويشار إليهم بالأقدام؟
تتأسف وتتألم، ثم تشك، من سمو المكانة في المُلك وفي الذهن لكن تواجهك الحقائق صارخة؛ من شدة ثراء البعض وحتى من ردهات المحاكم حيث يحاكمُ القضاةُ القضاةَ.
وسمو المكانة يقتضي أن يكون القضاء، في حد ذاته درعا يقي الجسم من كل نوازع الشر.
وبمعنى آخر: القضاء يجب ما قبله.
تصور أن يثق فيك ملك، ويُسلِمكَ خاتمه، وحيزا من ملكه؛ ثم تتأسس لك، لدى الشعب، مكانة وسمعة؛ ثم ينكتب اسمك ضمن كل قضاة الإنسانية، منذ استُنبت العدل استنباتا في الأدغال؛ وفي الأخير يتكشف لك وجه لا تنشق له حتى الأرض، عيافة، لتغيبه، كما تفعل مع بذور الأمل والزهور.





Aucun commentaire