الحديث عن الذكاء الاصطناعي بين التهوين والمبالغة

الحديث عن الذكاء الاصطناعي بين التهوين والمبالغة
محمد شركي

تابعت برنامجا تلفزيونيا قدم مؤخرا على قناة الجزيرة القطرية تحت مسمى » محاولة فهم » ، وهو من تقديم الصحافي عثمان آي فرح استضاف خلاله ثلاثة مختصين في شأن الذكاء الاصطناعي، وكان موضوعه عبارة عن سؤال : أين نحن ـ ويقصد العرب ـ من سباق الذكاء الاصطناعي ؟
ولقد دام البرنامج ثلاث ساعات متواصلة شرّق وغرّب خلالها الضيوف الثلاثة في موضوع الذكاء الاصطناعي تعريفا وكشفا عن كل ما يتعلق به من إيجابيات وسلبيات ، وما بلغه من تطور و من تحد للذكاء البشري، وما حققه من نجاح باهر عليه ، وما جلبه على البشرية من فوائد جمة، ومصائب وكوارث عظيمة في مجال التسليح والحروب ،وذلك على ضوء الأسئلة التي كان يتوجه إليهم بها المذيع الذي عبرعن مخاوفه من هذا الزائر الطارىْ على أمة العرب والذي شغلها وأثار فيها هواجس وهي المتأخرة عن غيرها من الأمم في ربط الصلة به حتى قال أحد ضيوف هذا البرنامج أن نسبة إقبالها عليه لا تتجاوز الواحد في المائة مقارنة مع غيرها من الأمم .
لا أريد في هذا المقال الخوض في كل ما تطرق إليه المتدخلون في هذا البرنامج لأن ذلك سيؤدي إلى طول لا تسمح به ضوابط فن المقال ، بل أثار انتباهي فيه تصريح أحد المتدخلين الذي يبدو أنه يعالج قضايا الإبداع الأدبي باعتماد تقنية الذكاء الاصطناعي مفاده أنه جربه إذ طلب منه نظم قصيدة شعرية عربية من إنتاجه ،وأنه نظمها بالفعل وأثنى على جودتها، بل زعم أنه عرضها على بعض المختصين في مجال الشعر فأقروا بجودتها أيضا مع تسجيل بعض الخلل وزنها العروضي .
استغربت منه هذا الزعم وأظن أنه قاس موهبة الشعر على تجربة لعبة » غو » وهي لعبة شبيهة بلعبة الشطرنج تفوق فيها الذكاء الاصطناعي على بطلها الكوري الجنوبي » لِي سِي دُولْ » ، وهي لعبة احتمالاتها لا يحصيها العد ، وكان الاعتقاد السائد أنه لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتغلب فيها على الذكاء البشري. ولا شك أنه لا مجال للمقارنة بين لعبة لها احتمالات لا حدود لها متعلقة بقطع تحرك فوق لوحة وبين موهبة قرض الشعر وشتان بين حركة قطع وبين بناء لغوي في غاية التعقيد وراءه موهبة مستعصية على الفهم بسبب مكونات هذا الضرب من الأدب بما في ذلك علوم الآلة من صرف ونحو وبلاغة، ومن تصوير وخيال وعاطفة … وما الشاعر به أعلم من غيره.
ولقد سبق لي أن نشرت مقالا من قبل عن كيفية تعامل الذكاء الاصطناعي مع الشعر العربي، فسألته عن مطلع قصيدة رثاء من إبداعي صدرتها بمقدمة غزلية جريا على عادة الشعراء العرب القدمى ، فنسبها إلى الشاعر العباسي ابن المعتز، وذكر أن بيت المطلع الشعري المسؤول عنه يوجد في ديوانه ، ففوجئت بجوابه بل خطر ببالي أنني ربما أكون قد غفلت عن كون هذا البيت سبقني إليه ابن المعتز ، فأسرعت إلى ديوانه فلم أجد له أثرا ، وراجعت الذكاء الاصطناعي في جوابه الخطأ ، وأخبرته أنني أنا صاحب البيت الشعري فاعتذر ، وشكر ، واستزاد من شعري ثم عاودت الكرة، فسألته عن بيت آخر من نفس القصيدة فنسبه إلى شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، فنبهته مرة أخرى إلى زلته فاعتذر وشكر واستزاد .
وبالأمس دار بيني وبينه حوار بخصوص تحليل النص الشعري هيرمينوطيقيا فعرض علي أن يشتغل على نفس البيت الشعري الذي نسبه إلى ابن رواحة ، فأعدت عليه سؤال لمن هذا البيت، فأجاب بأنه لي حسب تصريحي السابق. وطلبت منه تحليله، فحلله بطريقته ثم طلب مني المزيد من أبيات المقدمة الغزلية، فوافيته بها فحللها أيضا بنفس الطريقة مع انحراف في ضبط إعراب بعض كلماتها مما أثر على المعنى ، فنبهته إلى ذلك فاعتذر لأن الكلمات غير مضبوطة بالحركات الإعرابية فضبطتها له إلا أنه زلّ مرة أخرى فغير المعنى في بيتين شعريين حيث حول كاف الخطاب الدال على ضمير الغائبة إلى ضمير المخاطبة فاختل الوزن والمعنى معا . ولما نبهته إلى أهمية ضبط الحركات الإعرابية في الشعر أشاد بذلك، ولكنه اعتذر لأن الأمر يتوقف على إمداد المبرمج له بهذا الضبط .
وما لاحظته في شرحه لأبيات الغزل التي وافيته بها أنه يقوم بإسقاط تحليل نماذج سابقة من فن الغزل في الشعر العربي القديم ويقيس عليها معتمدا على مخزونه مما أمده به المبرمج . وبناء على هذا استغربت قول من زعم أنه طلب منه إبداع قصيدة شعرية ففعل ، وأقره على ذلك نقاد من ذوي الخبرة بفن الشعر العربي ، والواقع أنه يغترف من مخزونه الذي زود به سلفا، ويلفق منه ، فظن من أعجب بما قدم أنه بالفعل يستطيع أن يلج زمرة الشعراء العرب وربما تفوق عليهم كما تفق على بطل لعبة » غو » ،وهذا ضرب من المبالغة والوهم سببه الانبهار بقدرة الذكاء الاصطناعي على التصرف في أرصدة من مخزون الذكاء البشري ، وسرعته في ذلك .
ولعل المشكل الذي سيواجهه أصحاب فكرة الرهان على قدرة الذكاء الاصطناعي في مجال الإبداع الشعري هو محاولة البعض ممن لا يؤمنون بقدسية النص القرآني وإعجازه الزعم بأنه يستطيع أن ينسج على منواله كما نسج على موال الشعر ، وسيكون هذا هراء من قبيل هراء مسيلمة الكذاب وغيره ممن زعموا إبطال نظرية الإعجاز .
وخلاصة القول في هذا المقال أن هذا الذكاء الذي صنّعه الإنسان لا يمكن الاستنقاص من أهميته في مساعدته على التطور، وعلى تحسين ظروف حياته تماما كما ساعدته باقي مخترعاته السابقة ، وأنه لا يجب التهوين من شأنه كما أنه لا يجب المبالغة في أمر تفوقه على الذكاء البشري وهو ولي نعمته، وربما كان من العدل والانصاف والموضوعية ألا يسمى ذكاء احتراما للذكاء البشري الذي هو مما كرم به الله تعالى بني آدم .
ولا بد من الإشادة بما اقترحه الباحثون المختصون الثلاثة في هذا البرنامج وهو إسراع الأمة العربية في اللحاق بالأمم الأخرى في استغلال الذكاء الاصطناعي وتكون البداية من إدراجه في المنظومات التربوية والتعليمية كي تنشأ الناشئة المتعلمة على استعماله الاستعمال الأفيد لتطوير ذكائها الذي هو هبة و نعمة من الله عز وجل لا بديل عنها، كما أنه لا بد من الاحتراز من تعويلها على هذا الذكاء الاصطناعي في الحصول على المعلومات الجاهزة حتى لا يتحول ذكاؤها البشري إلى غباء . ولا بد أيضا من إخراجها من صدمة الانبهار بالذكاء الاصطناعي وذلك من خلال تدخل أهل الاختصاص لبيان كيفية اشتغاله وكيفية استخدامه عملا بقاعدة » إذا عرف السبب بطل العجب « .
ولنا عودة أخرى إن شاء الله تعالى إلى موضوع تجربة الذكاء الاصطناعي مع موهبة الشعر .





Aucun commentaire