Home»Débats»المغرب وصحراؤه: حين ينتصر المنطق على العبث..

المغرب وصحراؤه: حين ينتصر المنطق على العبث..

0
Shares
PinterestGoogle+

مصطفى قشنني

في لحظة فارقة من تاريخ النزاعات الدولية، خرج مجلس الأمن الدولي عن صمته المعتاد، ليعتمد قراراً غير مسبوق، لا يكتفي بإدارة الأزمة، بل يضع حجر الأساس لحلّها، ويمنح الشرعية الدولية لمقاربةٍ طالما اعتُبرت الأكثر واقعية ونجاعة: الحكم الذاتي المغربي. لم يكن القرار مجرد إجراء أممي روتيني، بل إعلاناً صريحاً بأن العالم بدأ يستفيق من سباته الطويل، ويعيد ترتيب أولوياته في ضوء التحولات الجيوسياسية، حيث لم يعد هناك متسع للكيانات الوهمية ولا للأطروحات الانفصالية التي تعيش على هامش التاريخ وتتنفس من رئة الأوهام.

القرار الأممي الجديد ليس مجرد ورقة تحمل توقيعات الدول، بل هو شهادة ميلاد جديدة لرؤية مغربية نضجت في مختبر الحكمة، وتبلورت عبر سنوات من العمل الدبلوماسي الهادئ، الذي قاده الملك محمد السادس بثباتٍ وحنكة، بعيداً عن الضجيج، قريباً من العقل. لقد نجحت الرباط في تحويل ملف الصحراء من قضية إقليمية إلى معادلة دولية، لا تُناقش في أروقة الاتحاد الإفريقي فحسب، بل تُطرح على طاولة القوى الكبرى، وتُدرج ضمن أولويات الأمن والاستقرار العالمي.

ما يميز هذا القرار ليس فقط عدد الدول التي صوتت لصالحه، بل نوعية هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة القلم، التي لم تكتفِ بالدعم، بل أبدت استعدادها لاستضافة المفاوضات، في خطوة تعكس حجم الثقة في المقاربة المغربية، وتُجسد التحول العميق في الموقف الدولي من قضية الصحراء. لم يعد الأمر يتعلق بتوازنات إقليمية، بل بإرادة دولية تُدرك أن الحكم الذاتي ليس مجرد حل وسط، بل هو الحل الوحيد القابل للتطبيق، الذي يضمن العدالة، ويحفظ الكرامة، ويُجنب المنطقة مزيداً من التوتر والتمزق.

القرار الأممي جاء محملاً برسائل متعددة، بعضها ظاهر، وبعضها يُقرأ بين السطور. فهو من جهة يدعو الأطراف إلى الانخراط في المفاوضات دون شروط مسبقة، ومن جهة أخرى يُحدد أرضية هذه المفاوضات: المبادرة المغربية. وهو من جهة يُشيد بجهود المبعوث الشخصي، ومن جهة أخرى يُطالبه بتقديم مراجعة استراتيجية خلال ستة أشهر، في إشارة إلى أن الوقت لم يعد يُحتمل المزيد من الدوران في حلقة مفرغة. وهو من جهة يُمدد ولاية بعثة المينورسو، ومن جهة أخرى يُطالب بتسجيل اللاجئين في مخيمات تندوف، في ضربةٍ موجعة لسياسة التعتيم التي تمارسها الجزائر منذ عقود.

الجزائر، التي اعتادت أن تلعب دور الراعي الرسمي للانفصال، وجدت نفسها فجأة في حالة شرود سياسي، وارتباك دبلوماسي غير مسبوق. فالعالم لم يعد يشتري رواية “الحياد”، ولم يعد يتغاضى عن تورطها المباشر في تأجيج النزاع. القرار الأممي، وإن لم يسمّها صراحة، إلا أنه وضعها في قلب المعادلة، وطالبها بالانخراط الجاد في الحل، لا في التعطيل. لقد انتهى زمن المناورات، وبدأ زمن المكاشفة، حيث تُقاس المواقف بمدى مساهمتها في الاستقرار، لا بقدرتها على إثارة الضجيج.

في المقابل، يواصل المغرب تعزيز موقعه كفاعل إقليمي مسؤول، يُقدّم الحلول بدل أن يصنع الأزمات، ويُراكم الشرعية بدل أن يراهن على الفوضى. لقد نجح في كسب ثقة القوى الكبرى، لا عبر الخطابات، بل عبر الأفعال: استثمارات في الأقاليم الجنوبية، مشاريع تنموية، احترام لحقوق الإنسان، انفتاح على العالم، واستعداد دائم للحوار. كل ذلك جعل من المبادرة المغربية للحكم الذاتي ليست مجرد ورقة تفاوض، بل مشروع دولة، رؤية متكاملة، تُجسد التوازن بين السيادة والانفتاح، بين الوحدة والتعدد، بين المركز والأطراف.

التحول النوعي الذي يشهده ملف الصحراء لا يمكن فصله عن السياق الدولي الأوسع، حيث تتزايد القناعة بأن النزاعات المصطنعة تُشكل عبئاً على النظام العالمي، وأن الحلول الواقعية هي السبيل الوحيد لتفادي الانفجارات القادمة. شمال إفريقيا، بما لها من أهمية جيوسياسية، لم تعد تحتمل المزيد من العبث، والمغرب، بما له من استقرار ومصداقية، يُقدّم نفسه كركيزة لهذا الاستقرار، وكشريك موثوق في بناء السلام الإقليمي.

القرار الأممي الأخير لا يُغلق الملف، لكنه يُعيد فتحه من زاوية جديدة، أكثر وضوحاً، أكثر عقلانية، وأكثر إنصافاً. إنه إعلان بأن العالم بدأ يُدرك أن الحق لا يُقاس بالصراخ، بل بالشرعية، وأن التاريخ لا يُكتب بالشعارات، بل بالوقائع. إنه انتصار للمغرب، نعم، لكنه أيضاً انتصار للمنطق، للواقعية، للسلام. إنه لحظة فارقة، لا في مسار النزاع فقط، بل في مسار المنطقة كلها، حيث يُعاد رسم الخرائط، وتُعاد صياغة المفاهيم، وتُعاد كتابة الرواية، هذه المرة بلغة الحقيقة، لا بلغة الوهم.

هنيئاً للمغرب بهذا النصر، الذي لم يُنتزع من فراغ، بل صيغ بحبر الحكمة، ووقعته إرادة الشعوب، وباركته المؤسسات الدولية. وهنيئاً للمنطقة بهذا الأفق الجديد، الذي يُبشر بسلامٍ لا يقوم على التنازلات، بل على التفاهم، لا على الإكراه، بل على الاقتناع، لا على التفرقة، بل على الوحدة في التنوع. لقد آن الأوان أن يُطوى هذا الملف، لا بالنسيان، بل بالحل، لا بالهروب، بل بالمواجهة، لا بالجمود، بل بالحركة. والمغرب، كما أثبت، لا يهرب من التحديات، بل يصنع منها فرصاً، ولا ينتظر الإجماع، بل يبني الثقة، ولا يكتفي بالحق، بل يُحسن الدفاع عنه.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *