عندما يُختزل مدخل القيم في منهاج مادة التربية الإسلامية!!!

بسم الله الرحمن الرحيم
عندما يُختزل مدخل القيم في منهاج مادة التربية الإسلامية!!!
في البداية أشير إلى أن فقرات تصريح السيد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، محمد سعد برادة، في تفاعله مع السؤالين الكتابيين لكل من النائبة البرلمانية عزيزة بوجريدة من الفريق الحركي حول أهمية مادة التربية الإسلامية في المنهاج الدراسي، والمستشار خالد السطي عن الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب حول جهود المدرسة المغربية في تربية الناشئة على الالتزام بالصلوات الخمس في أوقاتها، قد اطَّلعت عليها بواسطة موقعي هسبريس، وهوية بريس، بسبب عدم تمكني من الحصول على النص الأصلي لتصريح السيد الوزير، رغم استنفاذ عدد كبير من محاولات البحث على الانترنيت، وقد قدَّرتُ أن تطابق مضامين هذه الفقرات بين الموقعين مبررٌ كاف لإكسابها المصداقية اللازمة لاعتمادها.
ولعل الفقرات التالية كافية للتنبؤ بمآلات تصريح السيد الوزير في علاقته بالسياق المجتمعي الحالي:
- إنّ « الغاية من تدريس مادة التربية الإسلامية بالمنهاج التعليمي المغربي، كما تنص على ذلك وثيقة ‘ منهاج مادة التربية الإسلامية بالسلكيْن الثانوي الإعدادي والتأهيلي’، هو تَمثُّل مضامينها معرفياً، وجدانيًا وسلوكياً، لا مجرد تحصيل نقطة دراسية ».
- الغاية تتجاوز ما سبق لتكون: « سَعياً إلى مرضاة الله وللقيام بواجب الاستخلاف، وتورعاً عن الوقوع فيما لا يُرضيه سبحانه؛ من مختلف أشكال الإضرار بالنفس أو الغير أو البيئة والوطن ».
- إن « المُعوَّل عليه في مادة التربية الإسلامية يكمن في الإسهام في ترسيخ الثوابت الدينية والوطنية للأمة، وتنشئة التلاميذ على القيم الأصيلة، وكذا مواكبة الناشئة عبر مختلف أطوارهم العمرية، بما يعزز استعدادهم الدائم والمتجدد للتحلي بكل فضيلة والتخلي عن كل سلوك شائن يتعارض مع منظومة القيم المرجعية للأمة المغربية ».
- إن « مادة التربية الإسلامية رافعة أساسٌ لبناء الضمير الجمعي للأمة المغربية، وتحصين الإرادة الفردية والجمعية بالجدية في بناء الذات، وفي المساهمة في خدمة الصالح العام ».
إن ما جاء في تصريح السيد الوزير لا يكاد يخرج عما ورد في الوثائق الرسمية بخصوص مدخل القيم، بدءا بالدستور الذي يؤكد على القيم المرجعية المتمثلة في الهوية الوطنية المتنوعة، والإسلام كدين للدولة، والملكية الدستورية، والمواطنة الفاعلة، وحقوق الإنسان، والتعددية، والتضامن، والعدالة الاجتماعية، مرورا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي يروم بناء شخصية متكاملة قادرة على التفاعل الإيجابي مع محيطها والمساهمة في تنمية المجتمع من خلال ترسيخ قيم العقيدة الإسلامية، وقيم الهوية الحضارية، وقيم المواطنة، وقيم حقوق الإنسان، مع التأكيد على أهمية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وانتهاء بمنهج التربية الإسلامية على اعتبار أن مقرراتها بمختلف المستويات تُعد الأكثر إفصاحا على تبنيها لمدخل القيم، دون الإشارة إلى الكتاب الأبيض الذي يحدد مجموعة من الغايات المستمدة من الميثاق الوطني للتربية والتكوين.
غير أن ما يلفت الانتباه في تصريح السيد الوزير، هو ما جاء في النقطة الثانية أعلاه في كون الغاية من تدريس المادة تتجاوز ما سبق لتكون: « سَعياً إلى مرضاة الله وللقيام بواجب الاستخلاف، وتورعاً عن الوقوع فيما لا يُرضيه سبحانه؛ من مختلف أشكال الإضرار بالنفس أو الغير أو البيئة والوطن »، مع العلم أن هذا النوع من التصريح يعد من البديهيات التي يمكن أن يُصرح به وزير للتربية الوطنية في بلد ينص دستوره على أن دين الدولة هو الإسلام.
إذا علمنا أن الوثائق التي تؤطر تصريح السيد الوزير يرجع تاريخ صدورها إلى القرن الماضي، وأن آخرها هي وثيقة منهاج التربية الإسلامية التي صدرت سنة 2016 أي منذ 9 سنوات، فلماذا لم يُر لها، رغم مرور كل المدة، أي مفعول ملموس يعمل على الحد من انتشار مجموعة من الممارسات المجتمعية الشاذة التي أصبحت تزداد استفحالا يوم بعد يوم؟ فهل الأمر ينحصر فقط في العوامل الذاتية المتعلقة بتنفيذ منهاج مادة التربية الإسلامية، من قبيل طبيعة البرنامج، والحصة المخصصة لها، والمعامل المرصود للمادة مقارنة بباقي المواد، وتكوين الأساتذة…أم أن الأمر يتسع ليشمل عوامل خارجية تتجسد في توجُّهات فكرية تعمل على قولبة الرأي العام وصياغته بما يتماشى مع ما ينعت بالقيم الكونية؟
لست لا عالم اجتماع ولا عالم سياسة، ولكني أزعم أن تَدبُّر مضامين مختلف الوثائق الرسمية المؤطرة لتصريح السيد الوزير من جهة، ومعاينة مجموعة من الآليات والممارسات المسخرة لإعادة تشكيل منظومة قيم المغاربة من جهة ثانية، تسمح بالقول بأن الخلل يكمن بالأساس في الصياغة المزدوجة لتلك الوثائق الرسمية نفسها، بحيث تُعتبر العوامل الذاتية المشار إليها أعلاه إحدى تجلياتها من جهة، وتفتح المجال واسعا أمام تلك الأصوات المستأجرة لتقويض كل ما له علاقة بالدين الإسلامي، وقيمه السمحة من جهة ثانية. ففما معنى أن ينص دستور المملكة على كون الإسلام دين الدولة، في نفس الوقت الذي يتم فيه، على سبيل المثال لا الحصر، « التعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها (يقصد المواثيق الدولية)، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا »، و »جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة »؟
أعتقد أن هذه الصياغة تعتبر بمثابة تعبيد للطريق أمام التيارات المناوئة لكل ما له علاقة بالإسلام وقيمه، وإكسابها الشرعية اللازمة للتمكين للمشروع العلماني عن طريق ما يسمى الجمعيات الحقوقية، وجمعيات المجتمع المدني، والجمعيات النسوية، وبعض مكونات الجهاز التنفيذي، من قبيل وزير الثقافة، ووزير العدل، بل وحتى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية…، ومن ثمة يحق لكل مواطن مغربي سمِع بالتصريح المعني أن يتساءل عما إذا كان السيد الوزير ينطلق في تصريحه من كونه وزيرا ضمن حكومة يُفترض فيها التنسيق والتكامل في إعداد الخطط والبرامج الملائمة لبلوغ هذه الغايات النبيلة، أم أنه قام بتلاوة فقرات من تلك الوثائق على غرار تلاوة « الخطباء » لخطبة تسديد التبليغ، دون التفكير في كيفية تجسيدها على أرض الواقع من خلال مقتضيات عملية، في إطار منظور شمولي يعمل على إيجاد مخرج لمأزق تجسيد مدخل القيم في مختلف المواد الدراسية في إطار وزارة التربية الوطنية، من جهة، ويعكف على انخراط مختلف مكونات السلطة التشريعية والتنفيذية في المساهمة الفعالة في تركيز الجهود وتوحيدها لضمان بلوغ حد أدنى من هذه الغاية النبيلة من جهة ثانية.
فهل يُعقل تحميل مسؤولية بهذا الحجم لمادة يتيمة بجميع المقاييس، وسط هذا السيل الجارف من الممارسات المحاربة لكل ما له علاقة بالدين الإسلامي، فما عسى لهذه المادة أن تفعل أمام تسونامي المهرجانات التي لا يكاد يختتم أحدها حتى تُستنبت عشرات من أمثالها، أو أسوأ منها على طول البلاد وعرضها، وأمام البرامج الإذاعية والتلفازية التي تُعتبر التفاهة من أبرز مكوناتها، بل وأمام خطة تسديد التبليغ وتصريحات صاحبها التي من نتائجها المباشرة تنفير حتى أولئك الذين يرتادون المساجد، والذين يُفترض فيهم التحلي بتلك المواصفات التي يهدف منهاج مادة التربية الإسلامية إلى تثبيتها لدى المتعلم.
ختاما أقول بأن السيد الوزير إما أنه يستخف بعقول المغاربة، وهذا لا يستقيم في حقه كوزير للتربية الوطنية التي يُفترض انطلاقُها من مقتضيات التربية الإسلامية، حسب منطوق الدستور نفسه، وإما أنه يتجاهل محدودية تأثير مادة التربية الإسلامية، في السياق الحالي الذي يُهيمن عليه التيار العلماني الذي يعمل على تجسيد الإملاءات الخارجية بالحرف، في الوقت الذي بَرهنت فيه على عدم صلاحيتها حتى في المجتمعات التي كانت منبعا لها. وفي كلتا الحالتين أعتقد أن السيد الوزير بحكم منصبه، يعلم أو عليه أن يعلم، بأن من أبجديات قيم التربية الإسلامية، مطابقة أقوال المؤمنين لأفعالهم، حتى لا ينطبق عليهم قول الله تعالى في الآيتين التاليتين من سورة الصف: » يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) » وما عدى ذلك فلا يمكن أن يُدرج بأي حال من الأحوال ضمن منظومة القيم التي يراد اختزال مسؤولية الإناطة بها في منهاج مادة التربية الإسلامية.
الحسن جرودي





Aucun commentaire