Home»Débats»أهو العلم أم استغلال للعلم؟

أهو العلم أم استغلال للعلم؟

0
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسن جرودي

أهو العلم أم استغلال للعلم؟

كان العلم ولا يزال أمل البشرية، لإسعادها في الدنيا وإنقاذها من عذاب الآخرة، شريطة التزام أهله بمكارم الأخلاق. وليس أَيْسَر في وقتنا الحاضر من مُعاينة غَزوِ العلوم الدُّنيوية لمختلف مناحي الحياة، وتوجيهها نحو خدمة البشرية أحيانا، ونحو خدمة أجندات معينة أحايين أخرى، وهو الأمر الذي تُطرح معه، بالنسبة للعامة بل وحتى بالنسبة لعدد كبير من المثقفين والمحسوبين على العلم، صعوبة التمييز بين تلك التوجهات المحايدة التي تخدم الإنسانية دون خلفيات معينة، وتلك التي تخدم مصالح فئات معينة على حساب سواد الناس من خلال العمل على سيادة الجهل فيهم وسيطرته عليهم.

في مقال سابق تحت عنوان العلم والجهل أية علاقة؟ تطرقتُ إلى مفهوم صناعة الجهل بحيث يُستغل العلم لضرب العلم وتثبيت الجهل، ومَثَّلْتُ لذلك بكيفية التحايل على الدراسات الرصينة التي أثبتت علاقة التدخين بالسرطان، وكيف تم « التأصيل » للشذوذ الجنسي، وكيف تم التشكيك في الدراسات التي أثبتت أضرار المُبيدات على صحة الإنسان والحيوان…

واليوم وبمناسبة كأس العالم لكرة القدم، يَطلعُ علينا مقال في إحدى الجرائد الإلكترونية تحت عنوان « خبراء في علم النفس: مشاهدة مباريات كأس العالم تُطيل العمر » يورد فيه صاحبه أقوال بعض « علماء النفس » التي يمكن تلخيصها في كون  العلاقات الاجتماعية والشعور بالانتماء أثناء مشاهدة الفعاليات الرياضية، يقترنان بتحسن الصحة البدنية والنفسية، ويرتبطان بتخفيف أعراض الاكتئاب، وهذا أمر ليس لنا أن نشكك فيه على اعتبار أننا نعيشه في ممارستنا للحياة اليومية، قبل أن يَصدُر عن جهات مختصة، لكن الأمر الذي يَبعث على الشك والرِّيبة، وتصعُب استساغته هو الذهاب إلى حد التصريح بِكون بعض الدراسات تُثبِت أن هذه الأعراض تقلل من عمر الإنسان بواقع  10 أعوام إلى 12 عاما في المتوسط، وأن تشجيع الفرق في مباريات كأس العالم يطيل العمر، خاصة بعد التشنجات والمشادات الكلامية التي أفرزتها  الدراسات والدراسات المضادة أثناء مواجهة فيروس كورونا، وعلى رأسها الخلاف الذي أدى ب « اللجنة العلمية » الفرنسية إلى مطالبة الدكتور Didier Raoult  بدراسة عشوائية « Etude randomisée » على الرغم من النتائج الإيجابية التي حصل عليها باعتماد وصفته المعروفة، مما يُبين بالملموس تحكم لوبيات الأدوية في النتائج العلمية، ومن ثم فمن الصعب أن نقبل بمثل هذه التصريحات، التي لا يمكن التحقق من مصادرها العلمية، ولا من مصداقيتها، خاصة وأن المتغيرات المتحكمة فيها لا يمكن ضبطها، مما يصعب معه تحديد العينة المدروسة وكذا العينة الضابطة، علما أن هناك من يستفيد بشكل مباشر أو غير مباشر من الانخراط الكلي في متابعة هذه المباريات وغيرها من التظاهرات الرياضية والمهرجانات « الثقافية » التي تُحسب على الثقافة وما هي منها. في مقابل هذا النوع من التصريح مَنْ منا لم يسمع بانتحار مجموعة من اللاعبين والمشجعين على السواء، إما فَرحا وإما أسى وغما، بالإضافة إلى الخسائر في الأرواح التي تَنتُج إما عن انهيار مجموعة من المدرجات عبر العالم، وإما عن التدافع في الملاعب، كما حدث في إندونيسيا في زمن غير بعيد، ناهيك عن الخسائر المادية التي تتسبب فيها المظاهرات التي تعقب انتصار أو هزيمة فريق معين، أما الكآبة التي تعقُب انهزام الفُرُق، فيكفي النظر إلى وجوه لاعبي الفريق الإسباني ومشجعيه بعد انهزامه أمام المغرب، للإحساس بحجم الأثر السلبي على نفسية المنهزمين.

ثم بعد هذا وذاك لنفترض جدلا أن مشاهدة المباريات تُطيل العمر، فما الفائدة من عمر طويل يتم إنفاقه في اللهو والتسلية ومشاهدة المباريات؟ وهنا يُطرح سؤال مبدئي عما إذا كان طول العمر يقاس بعدد السنوات أم بعدد الإنجازات، فكم من مُعَمِّر اندثر اسمه مباشرة بعد موته، وكم من ميت بقي حيا بين الناس بعد موته، فالتاريخ ضَرَب صَفْحا عن مجموعة من المعمرين الذين لم يُوَرِّثوا ما يُذكَرون به، بينما خَلَّد أسماء أناس عمَّروا قليلا لكنهم خلفوا إرثا عظيما، وفيما يلي أسماء بعضهم على سبيل المثال لا الحصر، فبالنسبة للعرب والمسلمين أذكر معاذ بن جبل الذي عاش 36 سنة، بديع الزمان الهمذاني الذي عاش 40 سنة، عمر بن عبد العزيز الذي عاش 40 سنة، ثم ابن المقفع الذي لم يعش أكثر من 36 سنة، وبالنسبة للغربيين أذكر Evariste Galois الذي عاش 21 سنة، Blaise Pascal عاش 39 سنة، Anders Celsius عاش 42 سنة ثم Léon Foucault الذي عاش 48 سنة.

الهدف من جرد هذه الأسماء، التي يمكن التعرف على إرثهم العلمي من خلال البحث في الأنترنيت، هو التركيز على أهمية العمل الذي يُخلِّد صاحبه، عوض التركيز على اللهو وما يدور في فلكه، عملا بالقول الذي يُنسب للإمام علي كرم الله وجهه حيث قال  » بَرَكَةُ العمر حسن العمل » ومن ثم رأى بعض العلماء أنه من الأولى بالإنسان أن يدعو الله أن يبارك له في عمره وعمله، ولا يدعو بطول العمر.

لا أريد أن يُفهم من كلامي أني ضد الترويح عن النفس، سواء عن طريق ممارسة الرياضة بصفة عامة أو مشاهدة مبارياتها، وإنما الذي أريد لفت الانتباه إليه، هو عدم الإدمان الذي يؤدي بالضرورة إلى الإفراط في استهلاك الوقت، الذي هو الرأسمال الحقيقي للإنسان، في اللهو والعبث عوض استغلاله فيما يعود بالنفع، إن على المستوى الفردي أو الجماعي، علما أن العمر أيام كما قال الحسن البصري: « يا ابن آدم، إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك » وكما قال الشاعر:

 أيام عمرك تذهب   وأراك فيــها تلعــب

فأفِقْ فأنت مُراقـب   وجميع سعيك يُكتب

 

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *