حق النساء في التظاهر إلى أين؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
حق النساء في التظاهر إلى أين؟

كثير هي المفاهيم التي تشترك المجتمعات في منطوقها، ولعل مفاهيم الحرية، المساوات، العدل، الحق والواجب، الديموقراطية…من بين أكثرها استعمالا، غير أن تجسيدها على أرض الواقع يرتبط ارتباطا وثيقا بالمرجعية الدينية والثقافية للمجتمع المعني، فالتعامل مع هذه المفاهيم في إطار المرجعية الإسلامية يختلف اختلافا جوهريا عن التعامل معها انطلاقا من المرجعية العلمانية، بل قد يحدث أن يوجد اختلافٌ في تجسيد مفهومٍ ما، ضمن نفس المرجعية، بحسب الاختلاف الذي يمكن أن يحصل في فهم هذه المرجعية أو تلك، الأمر الذي تنتج عنه مجموعة من المشاكل المتعلقة بالحسم في الفهم الذي يتعين الأخذ به في نازلة معينة.
وبما أن البلاد الإسلامية أصبحت تتميز بالتنافس الشديد بين المرجعية الإسلامية والمرجعية العلمانية، وبما أن المرجعية العلمانية استطاعت أن تفرض نفسها على جل المجتمعات الإسلامية مع اختلافٍ في نسبة تبنيها، فإننا في المغرب لا نمثل استثناء، بل أصبحنا من بين أكثر هذه البلاد معاناة من ازدواجية المرجعية، فلا نحن مسلمون نعتمد التشريع الإسلامي ولا علمانيون نتبنى القانون الوضعي العلماني. وفي خضم هذه الازدواجية، أريد أن ألقي نظرة على الملابسات التي ترافق تنزيل مفهوم حرية المرأة ومفهوم المساوات بين الرجل والمرأة عندنا، انطلاقا مما أَوحَى لي به مقالٌ وَرَد خلال الأيام القليلة الماضية على أعمدة إحدى الجرائد الإلكترونية الواسعة الانتشار، تحت عنوان جمعية تدين « العنف » ضد « عاملات الإنعاش » أشار فيه صاحبه إلى إدانة الجمعية المغربية للنساء التقدميات ما أسمته « العنف المسلط على عاملات الإنعاش الوطني » خلال « وقفتهن الاحتجاجية السلمية بالرباط »، وإلى شجبها ل »استمرار السلطات في انتهاكها السافر للحق في التظاهر السلمي، وإمعانها في الدوس على كرامة النساء، ومن ضمنهن النساء العاملات »، ومطالبتها « السلطات باحترام الحق في التظاهر السلمي وحماية المحتجات بدل اللجوء إلى المقاربة القمعية وتسليط القوات العمومية عليهن، التي تدخلت بأسلوب نتجت عنه ممارسات يعاقب عليها القانون ». وقلت في نفسي، ألم تكن المرأة في غنى عن هذا التظاهر لو لم تسبقها المطالبة بمساواتها مع الرجل، مما دفع بها إلى القيام بأعمال كان الرجل الملتزم بدينه وقيمه ولا يزال، لا يرضى لها أن تقترب منها بالأحرى أن تُزاولها، وإلا فما قيمة الرجل الذي يرضى لأمه أو زوجته أو أخته أو بنته أن تكون نادلة في مقهى حتى لا أصرح بما يخطر على بال قارء هذا المقال، أو تقوم بعمل الكنس في الأزقة قبل شروق الشمس وحتى قبل بزوغ الفجر، مع استحضار كل تلك التحرشات التي تتعرض لها، وبعد هذا تأتي بعض النسوة اللواتي لا يتورعن عن استغلال المستضعفات في بيوتهن بأرخص الأثمان، ليتظاهرن بعد ذلك بمظهر المدافعات عن حقوقهن بالدفع بهن إلى التظاهر في الشوارع، وترك أولادهن عرضة للتسكع والضياع، في الوقت الذي يتعين فيه على الدولة المغربية أن توفر لهن الحد الأدنى من الأجر الذي يساعدهن على القيام بأشرف مهمة على الإطلاق، ألا وهي تربية الأجيال تريبة صالحة، ونظرا لشرف هذه المهمة، أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على العناية بالأم عندما سأله رجل عن أحق الناس بحسن صحابته حيث قال: « أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك »، وفي نفس السياق يمكن إدراج حديث « الجنة تحت أقدام الأمهات »، الذي يعتبر معناه صحيحا حتى وإن كان متنه ضعيفا. وانطلاقا من نظرة الإسلام هذه، لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار قيام المرأة بهذا النوع من الأعمال من حسن صحابتها أُمًّا كانت أو أختا أو زوجة أو بنتا، لأنه لا يمكن الفصل بينهن لكون هذه الصفات متشابكة فيما بينها ومتداخلة مع بعضها البعض؟
إن هذا الكلام لا يعني أنني ضد اشتغال المرأة بشكل مبدئي، لكني أرى أن عملها خارج البيت يستوجب توفير مجموعة من الشروط الأساسية التي تحول دون تشييئها أولا، وعدم تكليفها بمهام لا تتناسب مع طبيعتها الأنثوية ثانيا، وهنا تحضرني حالة تلك الفتيات اللواتي ينتمين لجهاز الدرك الملكي واللواتي نُصادفهن في مدارات طرقية خارج المدينة، لِأَتساءل ما إذا كان من الضروري تكليفهن بهذه المهمة التي قد تدوم من الصباح إلى المساء تحت أشعة الشمس الحارقة، في الوقت الذي لا يتوفرن فيه حتى على مكان لقضاء حاجتهن. هل افتقدنا الرجال؟ أم أن الأمر يتعلق بتمرير رسالة مفادها تنزيل مقاربة النوع والانخراط في منظومة مساواة المرأة بالرجل. ثم لا بد لهذه الشروط أن تضمن لها سلامتها من التحرشات، وتُمكِّنها من الظروف الملائمة لتربية أبنائها…وهو ما لا يتوفر حسب علمي إلا في عدد قليل من المهن، ولتوضيح ذلك نأخذ مثال زوجين يشتغلان خارج البيت، ولنفترض أنهما يشتغلان خارج المدار الحضري بل وحتى داخله، ولننظر في مدى إمكانية حصول الشرط المتمثل في توفير الظروف الملائمة لتربية الأبناء. إذا علمنا أن زمن الجدات اللواتي كن يقمن مقام المربيات قد انقرض أو كاد، فمن الذي سيقوم على خدمة الأطفال والرضع حتى لا أقول تربيتهم، هل يوجد حل غير اللجوء إلى دُورِ الحضانة ورياض الأطفال إن وُجدت، مع العلم أن عملية إيصالهم إليها وإرجاعهم منها يعد مشكلا في حد ذاته، لكون توقيت اشتغال الأبوين لا يتناسب في الغالب مع توقيت دور الحضانة ولا الرياض بل وحتى مع توقيت المدارس بالنسبة للسنوات الأولى من التعليم الابتدائي، مما يتم الاضطرار معه إلى إبقائهم في إحدى هذه المؤسسات طوال اليوم، ليتحول البيت بذلك إلى مأوى للنوم وربما لأخذ وجبة من الوجبات، ولا شك أن هذا عامل أساسي في عزوف الشباب عن الزواج وعن الإنجاب في حالة وقوعه.
وسوف لن يحتاج المرء لكثير من الذكاء ليستنتج أن اشتغال المرأة الذي يؤدي إلى هذا النوع من النتائج يتقاطع مع الدعوة إلى المثلية والرضائية والإجهاض، لأن النتيجة في آخر المطاف هي سيطرة الأنانية والاستجابة للشهوات الآنية مما يؤدي بالضرورة إلى انقراض الأسرة بالمفهوم الشرعي الذي يتميز بالتآزر والتكافل، وهو ما يُنذر بانقراض النوع البشري لا قدر الله.
في الأخير أذكِّر كل الجمعيات التي تدَّعي الدفاع عن حقوق النساء أن الله سبحانه وتعالى خلق الذكر والأنثى متكاملين وغير متساويين وما كان ليعوزه ذلك، ومن ثم فإذا كان من مطلبٍ للنساء فليكن ضمن هذا التكامل بحيث تتم المطالبة بتمكينهن بأشغال تليق بطبيعتهن بعيدا عن مطلب المساواة مع الرجال لأن ذلك لن يكون أبدا في صالحهن، والدليل هو هؤلاء النسوة اللواتي يشتغلن بمِهَنٍ لا هي لائقة بطبيعتهن الأنثوية ولا هي تضمن لهن سبل العيش الكريم، مما يفسح المجال أمام هذه الجمعيات للدفع بهن للتظاهر في الشوارع، مع العلم أن الدافع وراء اشتغال مجموعة من المتزوجات يكمن أساسا في التعويض عن إحساسهن بالنقص أمام تلك اللواتي يشتغلن خارج البيت وكأنهن عالة على أهلهن في الوقت الذي يقمن فيه بأنبل مهمة، ولا شك أن للنظام الذي ورثناه عن الاستعمار دور في إيجاد هذه الصورة النمطية التي تعتبر المرأة التي تدير شؤون بيتها بدون شغل. هذا بالإضافة إلى الرغبة في الاستقلال المادي عن الزوج، رغم أن رواتب عدد منهن لا يغطي حتى مصاريف التنقل واللباس وما يتبع ذلك من « أكسسوارات » المباهاة فيما بينهن، هذا في الوقت الذي كان بإمكان الأمهات منهن على الخصوص أن يبقين مكرمات معززات في بيوتهن لو وعين أهمية مسؤوليتهن داخل البيت من جهة، ولو وعت الدولة أهميتهن في تربية الأجيال من جهة ثانية، ليكون ذلك سببا كافيا لتخصص لهن جزءا من الميزانية عوض تخصيصها للمهرجانات والتظاهرات الماجنة التي تلعب الدور المناقض لدور الأم.
وختاما أقول أن مهمة تربية الزوجة لأبنائها أصل، ومهمة اشتغالها خارج البيت فرع بالمعنى اللغوي لا الشرعي، لذا وجب ترجيح المهمة الأولى عن الثانية وإحاطتها بالعناية اللازمة حتى تتمكن من إعداد الفرد الصالح لنفسه ومجتمعه، عملا بقول أمير الشعراء أحمد شوقي: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق.





Aucun commentaire