أثر جهر العلماء والدعاة باختلافهم على العامة من المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي

أثر جَهْرِ العلماء والدعاة باختلافهم على العامة من المسلمين
إلى وقت قريب كنا نتوق إلى حضور درس أو محاضرة عالم أو داعية، لأن الأمر كان يتطلب التنقل إلى مكان النشاط حين تسمح الظروف المادية وظروف العمل بذلك، وإلا فعدم الحضور هو الغالب الأعم، خاصة إذا كان خارج المدينة التي نقطن بها، أما اليوم فلا تكاد تسمع أو تقرأ عن تنظيم ندوة علمية أو تظاهرة حتى تجدها أمامك بالصوت والصورة بمجرد الضغط على بعض أزرار الحاسوب أو الهاتف النقال، حتى أصبحنا غير قادرين على مواكبة ما يُعرض منها على وسائل التواصل حتى في حالة الاقتصار على ما هو جاد، خاصة وأنه يشمل كل مجالات الحياة، أما التافه فمواكبته أصبحت غير مُتَصوَّرة بسبب طغيانه بشكل غير مسبوق، مع العلم أن الاطلاع على بعضه من حين لآخر يكون ضروريا لإيجاد الآليات المناسبة لمواجهة السموم التي يبثها في المجتمع.
وفي هذا المقال أود التركيز على قنوات مجموعة من الدعاة، خاصة تلك التي تُبَث على اليوتيوب، لكونها تساهم بشكل كبير في توعية العامة بدينهم وتبصيرهم بمجموعة من العيوب والآفات التي تم التطبيع معها حتى أصبحت في حكم العادة، هذا بالإضافة إلى أثرها الإيجابي في دخول عدد كبير من غير المسلمين إلى الإسلام، وهذا أمر لا يمكن إلا تثمينه والإشادة به، إلا أنه في المقابل يلاحظ لجوء عدد من العلماء والدعاة إلى تسفيه بعضهم البعض، لا لشيء إلا لأنهم يختلفون معهم في قضية من القضايا أو لأن أحدهم أخطأ في تقدير واقعة من الوقائع. وأعتقد أن الأمر أصبح واضحا للعيان ولا يحتاج إلى إعطاء أمثلة للدلالة عليه، لأن الهدف هو معالجة هذه الآفة من خلال دعوة هذا الصنف من العلماء والدعاة، حتى وإن كنت أعلم أن صوتي غير مسموع بالشكل الذي أرغب فيه، إلى تجاوز هذه الاتهامات والاتهامات المضادة والكف عن النفخ في النار وتهييجها أكثر مما هي مهيجة.
أعلم أن الاختلاف بين علماء الإسلام قديم، لكن الفرق بين الأمس واليوم، هو أن اختلاف الأمس كان محصورا في دائرة العلماء وبعض المقربين منهم، دون أن يكون ذلك سببا في خلق عداوة بينهم ولا فتنة في أوساط العامة. وتحضرني في هذا الصدد قصة الإمام الشافعي مع تلميذه يونس الصدفي الذي قال « ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيِّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة! »، وأما اختلاف اليوم، أو لِنَقل بعضا منه تفاديا للتعميم، فعلى الرغم من نشوئه بين الدعاة والعلماء، إلا أن أثاره الجانبية أصبحت معايَنَة بشكل جلي لدى العامة من المسلمين، ذلك أن التشويش الناتج عنه قد يؤدي مع الوقت إلى نزع الثقة منهم. ونظرا لكون العامة غير قادرين على ترجيح كفة رأي على آخر انطلاقا من الفهم الصحيح للكتاب والسنة، فإن الأمر قد يتطور إلى تذبذب في العقيدة وربما إلى أخذ موقف سلبي من الإسلام نفسه. ولست أدري إن كان علماؤنا على بينة من هذا الأمر أم في غفلة منه، ذلك أن العامة لا يحتاجون إلى كل تلك التدقيقات التي يلجأ إليها هذا الطرف أو ذاك لتبرير موقفه الذي يستهلك منه الجهد والوقت. وفي هذا الصدد أذكر على سبيل المثال لا الحصر كل تلك الطاقة التي أُهدرت في إصدار أحكام على الحاكم النيسبوري من خلال كتابه المستدرك على الصحيحين، فهذا يعتبره إماما سُنيا، وذاك يعتبره شيعيا مُنْدسّا في أهل السنة لبث مجموعة من الأحاديث المكذوبة للانتصار للشيعة. وفي رأيي المتواضع أن هذا النوع من الاختلاف والنقاش ينبغي أن يبقى ضمن دائرة العلماء والدعاة دون إقحام العامة فيه، لأن المفاسد المترتبة عنه أكبر من المنفعة التي يمكن جنيها إذا اعتمدنا قاعدة « درء المفاسد مقدم على جلب المصالح »، وهذا أمر مُيَسَّر دون عناء يُذكر، بحيث يَكفي إنشاء مجموعة مغلقة في إحدى شبكات التواصل الاجتماعي، والتطرق من خلالها إلى جميع المواضيع التي يرغبون في مناقشتها، أو الاتصال المباشر ببعضهم البعض حتى إذا استقر أمرهم على نتيجة معينة خرجوا بها للعموم، وإلا فبالإضافة إلى التشويش على العامة وتشكيكهم في معتقدهم، فالتعقيب أو التسفيه في العَلن لا يمكن إلا أن يَخلق حزازات يصعب التكهن بمآلاتها. وللتعبير عن هذا فسوف لن أجد أحسن من كلام الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال:
تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي وجنِّبني النصيحة َ في الجماعة
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعه
وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي فلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه
قلت إننا نحن العامة من المسلمين لا نحتاج إلى مثل هذه الاختلافات أكثر من احتياجنا إلى التفقه في المعلوم من الدين بالضرورة، إننا نحتاج إلى وضوء صحيح نُقبِل به على ربنا في صلاتنا، نحتاج إلى صلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر، وإلى صيام ينهانا عن قول الزور، وإلى زكاة تزكي أنفسنا وإلى صدقة بعيدة عن الرياء…أما هذا النوع من الاختلاف، فرغم أني لا أملك لا العلم ولا الجرأة للحكم عليه، فإني أرى أن له من السلبيات على أرض الواقع ما يساعد على خدمة مشروع أعداء الإسلام المتمثل في زرع الشك في عقيدة المسلم وزعزعة إيمانه، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى توحيد الكلمة ولمِّ الشمل الذي بدونه لا يمكن مواجهة الهجمة الشرسة التي تحيط بنا من كل الجوانب.
ختاما أرجو ألا يُعمم كلامي هذا على جميع العلماء والدعاة، مع العلم أن حضور هذا النوع من الخطاب في وسائل التواصل الاجتماعي من شأنه المساهمة في إشعال نار الفتنة في أوساط العامة والدفع بهم إلى فقد الثقة في الجميع، ولعل هذا ما يفهم من كلام ابن مسعود حين قال « ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. » وإنَّ أخشى ما أخشاه هو أنْ ينطبق على هؤلاء المختلفين من العلماء والدعاة قول الله تعالى في الآية 105 من سورة آل عمران: « وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ » صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم.
الحسن جرودي





Aucun commentaire