Home»Débats»السنة النبوية مصدرا للفعل الوقائي

السنة النبوية مصدرا للفعل الوقائي

6
Shares
PinterestGoogle+

ذ. الحسان حالي
أستاذ باحث بكلية الآداب جامعة محمد الأول

قبل البدء
إن من الشهود الحضاري أن نلم بموضوع مهم تستدعيه السجلات الآنية، المرافقة لزمن الحصار و تهديد الوباء ، فتبعا للأوضاع المختلفة التي خلقتها الأوضاع الحالية تناثرت مكتوبات، وانتشرت أقوال كثيرة، امتاحت من فهوم متعددة لمسائل يكتنفها الحديث عن الوباء والطاعون تاريخا وواقعا وموقفا. ومن كل ذلك استوقفنى قول أرى أنه في حاجة الى تعليق قد يرشد الى سبل الصواب.
الأمر يخص ما يثار حول ما يمكن أن يسمى الخطاب القدري، حيث أشار بعض الكاتبين و المتحدثين أخيرا وهم يتناولون مواقف علماء المسلمين وعامتهم إزاء جائحة الوباء المتسلط على عالم الناس اليوم، فذكروا أن تيار الفقهاء والمشتغلين بالشأن الديني عموما يميلون الى جعل الوباء قضاء وقدرا فيستكينون الى ذلك و لا يلتمسون طريقا للتعامل مع الواقع أو للخروج من الأزمة، بل نسبوا لهم موافق و تصرفات تدعو الى الدعة، وعدم التماس النجاة في تتطلب أسباب التطبب و الفرار من الداء..
ونحن إذا تفحصنا هذا الكلام، وتأملنا هذه المزاعم وجدناها لا تصمد أمام النقد الوجيه و النظر الحصيف.. ذلك أن النظر الى الحوادث و الوقائع من زاوية القدر، يحتم التأكيد على أن القاعدة العامة عند المسلمين جميعا هي عدم الفصل بين عالم الغيب المتجلي هنا في القدر، وبين عالم الشهادة المتجلي في الوقائع والحوادث التي منها الجوائح و الآفات المرضية و الأوبئة.. فالي هنا يتم الإقرار بتشابك العالمين. وعلى هذا لا فكاك من انتظام هذا الفهم عند المسلمين جميعا ليستوعب ارتباط الوقائع كل الوقائع بأقدارها.
و الوباء من القدر والتعامل معه من القدر، بمعنى أن نزول الوباء لا يكون إلا بمقتضى قضاء الله وقدره، و اتخاذ الأسباب في مدافعته، والفرار من وطأته، والتماس العلاج منه، لا يكون كذلك إلا بمقتضى هذا القضاء والقدر. فلا يتصور تجزيئ القدر وتحجيمه، لأن كسب الإنسان جزء من فلسفة الخلق في هذه الحياة. فكلما اهتدى الإنسان الى ما يدفع به عوارض الحياة، ويسهل سبل العيش السليم، يعتبر تصرفا مندرجا في ناموس القدر.
والذي عليه جمهرة السلف أنهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية، بل يقرون بأن الله ينشئ السحاب بالرياح و ينزل الماء بالسحاب وينبت النبات بالماء… فالله خالق السبب و المسبب، وهو سبحانه أودع طبائع في المخلوقات كلها، وقدرها فيها قدرة أسباب أو حكم أو علل. ومن قال غير هذا فقد جحد خلق الله.
الفعل الاجتماعي…مدخلا للفعل الوقائي
لقد حفزت الأوضاع العالمية التي نعيشها الى تعديل النظر تجاه اختيار التعامل الاجتماعي الوقائي، وتصحيح المسار بما يساعد على التقليص من وطأة الحاجة، والحد من الهشاشة، و الانتصاب لمدافعة طوارئ الآفات والأزمات. وهو الاختيار الذي ينتحي نحو الصواب، ويعود بالأمر إلى الوضع السليم، ليطل على التوجيه الإسلامي القديم والفريد في المسألة الاجتماعية والوقائية معا.
إن هذا التوجيه الذي استند على قدسية الوحي، وعصمة الفعل النبوي، قد أسس لعمل مجتمعي أصبح مستأثرا بظهور وشفوف، من خلال فقه اجتماعي له قضاياه ومسائله ومفرداته واصطلاحاته، مما قد لا نجد له نظيرا في أي نحلة أو ملة أو تصور أو فكر.
لقد أنشأ الإسلام مفهوم الهيئة الاجتماعية، وفوَض إليها إنجاز الكثير مما تقوم عليه المصلحة العامة، وأطر ذلك بمعاني غاية في السعة والشمول، وفي الدقة وإصابة الهدف، بغية بناء القوة المادية والمعنوية للأمة.
استدعى الإسلام معنى العمل الصالح ليدخل في عمومه كل عمل أو تصرف يقرب مصلحة أو ينفي ضررا، يلبي حاجة أو يدفع آفة… ولقد بنى الإسلام هذا الأمر على اعتبار حاجة الإنسان والخلق عموما، وافتقارهم بضعفهم الملازم لهم، فلا تتصور الحاجة في الفقير والمعدوم وحده، بل الحاجة هي سمة الإنسان ولو كان غنيا، إنما هي حاجة دون حاجة.
وكذلك استدعى الإسلام معنى الفرض الكفائي، ليجعله فرضا اجتماعيا واسعا تطالب به الهيئة الاجتماعية. فتصبح الفروض الكفائية فروضا اجتماعية، يقوم بها المجموع بشكل تضامني، وينوبون عن الباقيين ممن قد يكونون مستغرقين في تكاليف أخرى لا تنتظر … وهكذا.
لقد استوعبت هذه المعاني وغيرُها كلَ نواحي الحياة فتناول نشر العلم، والإعانة على إقامة العدل بالشهادة وغيرها، وتوفير الأمن، وحماية الهوية والحدود والثغور، وكذا الإغاثة والإنقاذ، والقيام بحقوق الفئات المعوزة والمحتاجة، والقيام بحقوق الموتى…
ونحن إذا نظرنا إلى السنة النبوية نجد أن الحامل على تركيز هذه المعاني والمفاهيم في الأمة، هو ما جاء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فأصبح نبراسا تستضئ به الأمة في مسارها التاريخي رسما لسبل الرقي الحضاري.
التأسيسات النبوية للفعل الوقائي المجتمعي
قد لا أكون في حاجة الى الإلماع الى أني أتجاوز الحديث في هذا السياق عن التأسيسات النبوية المسددة بالوحي، والمتعلقة بالفعل الوقائي الفردي، مما يجد مجاله في قواعد حفظ الصحة، المتجلية في النظافة الجسدية والبيئية، وأمور التغذية الصحية، مما يكون منظومة متكاملة في الإسلام تشع إعجازا يتدارسه أهل الاختصاص في عصرنا.
وإنما الغرض هنا يتعلق بجانب التأسيسات النبوية العامة، التي ينظر اليها من جانب كونها تدابير شاملة، تنتظم المجتمع باعتباره وحدة متكاملة، فتجعله كتلة قائمة تحتاج تراتيب وقائية تقيه المزالق والمهالك.
لقد كان من فعله عليه السلام إثر الهجرة النبوية ووصوله عليه السلام إلى المدينة، أن قام بإنجازات وتأسيسات اجتماعية وقائية بالغة الأهمية في ظرف زمني حساس، جاءت لتضمن سلامة المجتمع الناشئ.
من هذه التأسيسات مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين الأنصار والمهاجرين، وهو فعل أسس للنظام الاجتماعي الوقائي، والتضامن الجماعي الاستباقي، الذي تم استدعاؤه، في ظرف وضع الأسس لبناء كيان المجتمع الفتي، دفعا لطروء الآفات و نزعا لفتيل حدوث الأزمات.
إن هذه المؤاخاة جاءت تتلمس الإرشاد الى سبل التصرف القويم إزاء وضعية مجتمعية طارئة، فأصبحت صورة مشرقة للعمل الوقائي الممتد لتحقيق الكفاية الاجتماعية في زمن البدايات لتأسيس أركان الدولة والمجتمع والأمة.
لقد تم تثبيت قاعدة أساس من قواعد العدل الاجتماعي في الإسلام، وهي التي تتسع لتشمل الوحدة الاجتماعية كلها، بما فيها من عناصر مرورا بالأخوة في الدين والقرابة في الدم والنسب والجوار والتساكن…
اعتمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب وقت الحاجة، ليحيل على طراز خاص من التصرف الاجتماعي، الذي يجعل ثمرة الجهد والثروة يتم توزيعها وفق دائرة أكثر منطقية خصوصا في الظروف المناسبة أو ذات الخصوصية.
لقد استكملت هذه العملية الاجتماعية شروط النجاح من جهة الفعالية الدعوية التي أنشأت جيلا يحكمه مبدأ العطاء، ولذلك نلاحظ نفرة الأنصار وهبتهم لتنفيذ بنود المؤاخاة، رعاية لحق المهاجرين الذين خرجوا من بلادهم و ديارهم، وتركوا أموالهم ومتاعهم، فلم يتركوهم لمصيرهم، مما يدفع لا محالة الى تراكم المشاكل الاجتماعية التي يمكن أن يغذيها الشعور بالإحباط و الدونية والنقص..
لقد كان مثل هذا التصرف ممهدا لنجاح العملية الوقائية الاجتماعية الفتية في بداية الإسلام، مما صيرها عملا رائدا في مجال العدل الاجتماعي، وإنصاف الوحدة الاجتماعية، وتقديم مصلحة الهيئة العامة ..، وكل هذا يشير إلى مرونة الإسلام وانفتاحه، في الظروف المناسبة والخاصة، على أشد أشكال العلاقات الاجتماعية تحقيقا للعدل والإنصاف والمساواة و رعاية الحقوق و المصالح، ذلك لأن الأمن الاجتماعي أهم مقومات إنشاء الأمة وإقامة الحضارة.
لقد بقي النبي عليه السلام حريصا على نصيب المهاجرين في كل توزيع، حفاظا على التوازن الاجتماعي، الذي يكاد ينفرط عقده من غير حرص. وقد قابل ذلك حرص الأنصار على وشائج الأخوة القائمة على الإيثار، فالتقي الأمر على تقدير المصلحة الاجتماعية في كل ذلك.
أورد أصحاب السير والمغازي أنه لما غنم المسلمون أموال بني النضير، في السنة الرابعة للهجرة، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، وذكرهم بما صنعوا للمهاجرين، وأثنى على أثرتهم على أنفسهم، ثم قال: « إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله عليَ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلهم وأموالهم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم. فأجابه زعماء الأنصار بل تقسمه للمهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت كل الأنصار: رضينا يا رسول الله.( )
وورد كذلك أن ما أصابه النبي عليه السلام من خيبر قد جزأه ثلاثة أجزاء، فجزآن للمهاجرين، وجزء لنفقته على أهله، فإن فضل شيء رده على فقراء المهاجرين.( )
لا سبيل إلى الاسترسال فيما يتعلق بجوانب هذا الفعل النبوي الاجتماعي. لكن لا نغادر هذا المثال قبل التأكيد على أنه مثال لطراز من الأعمال الاجتماعية في السنة و السيرة النبوية، يمثل صورة رائعة سامقة يعرضها التاريخ فلا تكاد الإنسانية تجد لها مثيلا أو نظيرا. وهي ممارسة اجتماعية تقصد تثبيت الفعل الاستباقي، لدفع الآفات ونفي الأزمات قبل حدوثها واستشراء آثارها في بنيان المجتمع.
ولعله ليس من العسير بعد هذا، الإقرار بسمو التوجه النبوي في استدعاء الطابع الاجتماعي لبناء الكيان الإسلامي الناشئ، وهو الأمر الذي استبقاه حفظا للمجتمع ووقاية له من طوارق الآفات و طوارئ الأزمات.
وهذا التوجه هو الذي ضمن التوازن، ولم يسمح أبدا بتغول كيان الدولة على حساب المجتمع، ولو باعتبار شرط الضبط و التدبير…
إن هذا التدبير الوقائي أضحى يشكل قاعدة عمل عظيمة، تجنب الدوس على حقوق فئات من المجتمع وطوائف منه وأفرادا. و تحيل في الوقت ذاته على استبصار جذور الأزمات، وأسباب المشاكل، نفيا لطروئها ودفعا لحدوثها من الأصل.
وهي ممارسة اجتماعية تقصد تثبيت الفعل الاستباقي في مشاريع تعهد الإنسان داخل الهيئة الاجتماعية، لدفع الآفات ونفي الأزمات قبل حدوثها واستشراء آثارها في بنيان المجتمع. ثم إنها تشرع لتعبئة القطاع الاجتماعي بتوفير الرأسمال الحيوي للتدبير العام، وخدمة التجمعات بحسب مخطط الأولويات مما يحتاج اليه ويتوقف عليه.
لقد أسس هذا الفعل لبناء المجتمع الانتماء و مجتمع التساكن و الترابط، وقف مبادئ ناظمة للاجتماع وإقامة العمران و تأسيس الحضارة.
ولعله ليس من العسير ملاحظة التفكير النبوي السديد في التوجه الاجتماعي لناء الدولة الإسلامية، منذ البداية، على أساس التضامن التكافلي، الذي يستنهض القوة الكامنة قصد مناهضة الخصاص ومدافعة الحاجة، أداء لواجب حماية المجتمع من العلل والأدواء التي يمكن أن تستشري فيه لمجرد الغفلة عن هذا الجانب.
ومما يستلفت النظر من الهدي النبوي ذو الدلالة الاجتماعية، ما ورد تنويها بما يبلغه عليه السلام من سلوك أو تصرف، يفضُل بالتوجه الاجتماعي الذي يتخذه صبغة و مسلكا، فيبادر صلى الله عليه وسلم الى الإعراب عن التنويه بالفعل تشجيعا على مثله.
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم »( )
إنها معالم التربية الاجتماعية النبوية، القائمة على التنوية في إطار منهج التحفيز، ما كان ينبغي أن تغيب عن أذهاننا ولو مضي عليها زمن طويل، لأنه تنويه بفعل هو محل قدوة. لقد شرف النبي عليه السلام هؤلاء الأشعريين بهذه النسبة، « فهم مني وأنا منهم ». وجاء في بعض الأقوال أن معناه: فعلوا فعلي فيما ينبغي في المواساة والتداعي والتكافل، كما قال ابن حجر في شرح الحديث.( )
فمثل هذه الروح ترفرف لتسعد الأمة في مواجهة الحاجة، أو مواجهة الجوائح والنوائب والنوازل وما إلى ذلك.
ويصل بنا المطاف هنا إلى التنويه بما أنجزه الفقه الإسلامي، تأسيسا على مثل هذا الفعل، مما كوَن رصيدا كبيرا زاخرا في جانب الفقه الاجتماعي، الذي يأخذ في الاعتبار، بأعلى المقاييس، حياة الناس في إطار المسؤولية الاجتماعية.
وقد يكون مثاله في واقع المسلمين مسألة إسكان الناس وإيوائهم في حالة الكوارث والنوائب، حيث جاءت فتاوى علمائنا تقول بلزوم ذلك ووجوبه، ولهم فيه تحقيقات وتفريعات كثيرة.
ومثاله كذلك باب واسع فيه لزوم الإعانة والإعارة على المستطيع لتيسير حياة الآخرين، وفيه القول بإعارة الماعون وهو كل ما يستعان به من مثل: القدر الفأس والإبرة أو الخياط، وإعارة المنيحة توفيرا لمصدر الحليب…
إن كل هذا وغيره هو مثار فقه جليل القدر، عظيم النفع، واسع الأطراف، مما ليس في الوسع الاستطراد بجزئياته ومسائله هنا.
إن ما تم عرضه إلى الآن يكشف منهج الإسلام في تأطير العمل الاجتماعي، رعاية لحق الجماعة في التضامن والتلاحم وأداء الواجب الجماعي حلا للمشكلات، بل استباقا لوقوعها، وهو نهج الإسلام الفريد في استدعاء أسلوب الوقاية التي هي أفضل من العلاج قطعا.
إلا أنه لا ينبغي إغفال حضور جانب كيان الدولة لأداء وظيفتها الاجتماعية، في تناغم تام مع أدوار الهيئة المجتمعية، واحترام كامل للأداء الجماعي العام، دون حساسية أو حزازات أو مزايدات تودي بالمجتمع و لا تخدمه.
لقد نبهت كثير من التشريعات النبوية في هذا الصدد، على استحضار معنى التوازن في الأدوار والترتيبات الاجتماعية لكلا الجانبين: جانب كيان الدولة و جانب كيان المجتمع.
ولعل الإشارة في هذا السياق قد تسبق إلى ما هو معروف مما نتداوله جميعا، وذلك مثل الحديث الشهير الذي قال فيه النبي عليه السلام: « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسؤول عن رعيته… »( )
فالرسول عليه الصلاة والسلام يعلن مسؤولية الدولة الاجتماعية العامة…وقد كانت تصرفاته عليه السلام، وهو قائد الدولة، تذهب في اتجاه تعهد الجانب الاجتماعي في رعاية حقوق الضعفاء والمحتاجين والعاجزين وذوي الاحتياجات…
كما جاء عنه عليه السلام: « من ترك دينا أو ترك ضَيَاعا فأنا مولاه »( )، ففي مثل هذا تأسيس لفعل اجتماعي مؤطر من جانب الدولة، تتحمل فيه نصيبها فتتدخل بما يلزمها فيه أداء للواجب التدبيري لرعاية الحق، دفعا للانزلاق والتفلت، وضياع الثقة المجتمعية بضياع المسند والمعيل، فلا يبق سوى الحقد على المجتمع والخروج عليه، و زرع بذور الضغينة التي تنشأ بسبب اللامبالاة الاجتماعية، والإهمال الاجتماعي لفئات تطرأ عليها الحاجة و الفاقة.
فهذا أو غيره كثير يدفعنا إلى ملاحظة التصرف النبوي في سياق الضبط الإداري للفعل الاجتماعي الذي تتبناه الدولة وتأمر به …و هو أمر لا يخرج عن أصل التبليغ و التعليم للأمة، ليتم أمرها ويستقيم شأنها بمراعاة السنن الإلاهية التي لا تحابي أحدا، بل تحفظ من يحفظها وتضيع من يضيعها.
وحقيق بنا أن نشير إلى أن هذه الأساسات هي التي بُنيَت عليها جميع التدابير والتراتيب الاجتماعية في الحضارة الإسلامية، سعيا إلى تحقيق الرخاء الاجتماعي المصون بأخلاقيات العدل الاجتماعي في الدولة الإسلامية. كما بني على ضوئها الفقه الاجتماعي الإسلامي، فوجدنا فرض أنصبة في بيت مال المسلمين لفئات من الناس تحملت الدولة مسؤوليتها في تعهد وضعياتهم، ورعاية أحوالهم.
وفي هذا السياق شيء كثير مما أبدعته السياسة العامة في الدولة الإسلامية، وضربت به أروع الأمثلة في ضمان صمود قوة النظام الاجتماعي في الإسلام أمام غيره من الأنظمة.
ذلك لأن هذه الأنظمة لا تدانيه فيما هو عليه من ترابط الحلقات، وتماسك الفقرات، وانشداد إلى الأصول الإيمانية والضوابط الأخلاقية…
لقد حفز هذا النظام كثير من الباحثين المحدثين، ودفعهم إلى الاطلاع عليه ثم الإشادة به، والتنويه بأنه يستطيع أن يكون بديلا للنظام الاجتماعي العالمي الغربي. يقول الباحث الغربي روجيه دوباسكويه: » يقدم الإسلام، سواء في الغرب الغني في الماديات و الفقير في الأخلاقيات، أو في بلاد العالم الثالث الفقير في الماديات، أشفى و أكثر الحلول جذرية و وضوحا للتحدي المعاصر.. »( )
الى هنا يسلمنا المطاف الى تتبع مسيرة الإسلام في عصر الخلافة حيث مضى العمل بناء للحضارة الإسلامية الخادمة لإنسان، على قيم لها شفوف وحضور في الرعاية والعناية بالمصلحة وفي المدافعة والمغالبة للمضرة و المفسدة.
وفي هذا السياق نطل على تدابير استعجالية وقائية أحالت عليها ظروف طارئة في حياة المسلمين، ومن ذلك ما حدث زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أول العام الثامن عشر للهجرة من جدب وقحط استمر مدة (8)، وقد تسبب ذلك في فاقة ومجاعة أصابت الناس في الحجاز وما حولها، ودفع الكثيرين الى النزوح عن بلادهم والنزول بالمدينة المنورة وما حولها، وسمي ذلك العام بعام الرمادة لشدة ما أصاب الأرض والناس من آثار القحط والجفاف.
ويذكر المؤرخون أنه تجمع بالمدينة عدد غفير من النازحين من أعراب البوادي المتضررة، بلغ في نهاية المطاف نحوا من ستين ألفا.

أسند الذهبي خبرا في هذا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: « لما كان عام الرمادة جاءت العرب من كل ناحية فقدموا المدينة …فأحصوهم من القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل، وأحصوا الرجال المرضى والعيالات فكانوا أربعين ألفا، ثم بعد أيام بلغ الرجال والعيال ستين ألفا ».(9)
و لا شك أن هذا الطارئ حمل معه تحديا كبيرا وضع أمام الدولة الإسلامية، فأحال على ضرورات التدبير الاستعجالي والوقائي، وهو ما اتسم به التفكير التدبيري لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه باعتباره القائد العام الذي أرسى قواعد خطط ميدانية أولية، وإجراءات عملية استباقية، الى ترتيبات متلاحقة ممتدة الأثر..
ورد في النصوص التاريخية ما يفيد أن الخليفة عمر بن الخطاب عمل على تدبير الأزمة أولا وفق خطط استراتيجية هامة، على رأسها التدبير الإداري والسياسي المحكم، ولعل هذا يتمثل التوقيف المؤقت لحركة الفتوحات، فكان ذلك من فقه الضرورات والطوارئ الذي يتيح توجيه الجهود نحو حل الأزمة الطارئة. ويتمثل كذلك في الهيكلة الإدارية القائمة على توفير « لجان الخدمة »، ممن توكل اليهم مهام الإشراف على شؤون النازحين وإحصائهم والقيام على أمورهم .. ورد في خبر زيد بن أسلم المذكور آنفا: « …فكان عمر قد أمر رجالا يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلة أحصوا من يتعشى عندنا.. ».(10)
ويتمثل كذلك في التوفير المستعجل للزاد والمؤن التي تكفي لإغاثة هؤلاء النازحين وإطعامهم، وإغاثة المحتاجين في البادية (بادية الحجاز) ممن لم ينزحوا. وقد اعتمد عمر على موارد بيت المال وما توافر لديه مما تم تجميعه من محليا بالمدينة والحجاز.
وأما المرحلة الثانية فجاءت لما قاربت هذه الموارد من النضوب، فأطلق عمر نداء الإمداد من الأمصار. « لما دفت العرب الى عمر رضي الله عنه بالمدينة كتب الى العمال الى سعد بالكوفة، والى موسى بالبصرة، وعمرو بن العاص بمصر، ومعاوية بالشام. »(11)
فكان أول من أجاب أبوعبيدة بن الجراح قدم بأربعة آلاف راحلة من الزاد والطعام، فولاّه عمر قسمتها على من حول المدينة.
ثم تتابعت قوافل الإمدادات فوصل بعث مصر في قافلة من ألف بعير، وعشرين سفينة محملة بالدقيق و الدهن والكساء، ووصل بعث الشام في ألفي بعير، وبعث الكوفة في ثلاثة لآلاف بعير، ووصل بعث البصرة في عير تحمل الدقيق والزيت والسمن والشحم والمال.
ومن كل هذا استبقى عمر ما يكفي النازحين بالمدينة وما حولها، ودفع نصيبا الى القبائل بنجد و طريق الشام، وقد كلف محمد بن مسلمة بقبائل قيس وتميم وطيئ وأسد ، وكلف عبد الله بن الأرقم بقبائل قضاعة ولخم وجذام.(12) وأوصاهما:  » إياكما أن تعطيا العرب الإبل، فإنها لا تنحرها، انحرا البعير فأطعماهم… ».(13)
والى هنا يمكن لنا أن نتصور حجم هذه العملية التي تولى إدارتها الخليفة عمر بن الخطاب بنجاح كبير، فجنب الأمة مهلكة عظيمة كادت تسببها الفاقة والجوع، جراء القحط والجدب وانحباس المطر. فكان تدبيرا وقائيا عظيم الأثر في تثبيت حقوق الناس في إطار الدولة المسؤولة عن رعيتها.
ولقد مكن هذا التدبير من تجاوز الأزمة بكل أمان، فبقي الناس في كنف الرعاية المكفولة لهم، الى أن انفرجت بعودة انتعاش البلاد إثر نزول الغيث و الأمطار. فجاء توجيه الخليفة بإرجاع الأمور الى نصابها وسابق عهدها، حيث أمر بتوزيع المؤنة على النازحين، وإخراجهم الى باديتهم ومضاربهم.(14)

*** *** *** *** *** *** ***
الإحالات والهوامش:
انظر المغازي للواقدي 1/379 – فتوح البلدان للبلاذري ص: 10
رواه أبو داوود في سننه، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب صفايا رسول الله من الأموال
رواه البخاري في صحيحه كتاب الشركة باب الشركة في الطعام، ومسلم في صحيحه أبواب فضائل الصحابة. وأصل الأشعريين من عرب باليمن وهي قبيلة قحطانية تنسب إلى الأشعر بن أدر، من أهل اليمن تفرقوا وطرؤوا على الحجاز والمدينة.
فتح الباري 5/164 بعناية عبد العزيز بن باز و محمد فؤاد عبد الباقي ط الأولى 1989.
الحديث متفق عليه
متفق عليه
انظر كتاب: إظهار الإسلام روجيه دوباسكويه ترجمة عادل المعلم ص 27،الطبعة الثانية، الشروق الدولية، 2002.
انظر الطبقات لابن سعد تحقيق إحسان عباس 3/283.
انظر تاريخ الإسلام للذهبي تحقيق بشار عواد معروف 2/151.
نفسه 2/151.
انظر الطبقات لابن سعد 3/310، و تاريخ المدينة المنورة ابن شبة تحقيق علي محمد وياسين سعد، ص 395، دار الكتب العلمية 1417ه.
انظر البداية والنهاية لابن كثير، تحقيق على شيري 7/103.
نفسه 7/104.
تاريخ الإسلام 2/151.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *