Home»Débats»من التطبيع إلى فقد الثقة في النفس والوطن

من التطبيع إلى فقد الثقة في النفس والوطن

0
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن الرحيم

من التطبيع إلى فقد الثقة في النفس والوطن

يعتبر تسليط الضوء على مكامن الخلل والضعف من جهة ومكامن القوة من جهة أخرى لدى الأفراد والجماعات معا، عاملا مهما وقد يكون حاسما في عملية تشخيصٍ موضوعية للوضع أو الأوضاع التي يعيشها الفرد أو الجماعة، مما يسمح بتحديد أهداف واضحة لتجاوز السلبيات وتعزيز الإيجابيات من خلال وضع استراتيجية ملائمة لبلوغ هذه الأهداف، لتعقبها بالضرورة عملية تقويم مرحلي ثم نهائي لتتجدد حلقة جديدة انطلاقا من نتائج الحلقة التي قبلها دون توقف، مع الرفع كل مرة من سقف الأهداف المتوخاة التي تروم الارتقاء في سلم الانتظارات.

وقد يكون من المفيد كذلك الخروج من الدائرة وتسليط الضوء على تجارب الأفراد والجماعات والشعوب المختلفة بهدف الاستفادة من تجاربها الناجحة وتفادي ممارساتها الفاشلة.

هذا إذا كان الفرد أو الجماعة أو الشعب المعني واعيا بوضعه، ولديه ما يكفي من العزيمة لتغييره إلى الأحسن ومتأكدا بأن لا أحد يمكن أن يقوم بذلك مكانه عملا بمقولة ما حك جلدك إلا ظفرك، أما إن كان غير ذلك فإن الأمور قد تتعقد إلى الحد الذي يصبح فيه التعافي من المرض مستحيلا، ويبقى الحل الوحيد المفروض هو بتر عضو أو مجموعة من الأعضاء كما وقع لمجموعة من البلدان الإفريقية التي بُتِرت منها مواردها الطبيعية ولغتها وهويتها لتصبح عالة على غيرها في الوقت الذي كان من الممكن أن يكون العكس هو السائد.

الدافع وراء هذا المقال، هو ما يُنشر يوميا على وسائل التواصل الاجتماعي من التركيز على النقائص التي ابْتُلي بها مجتمعنا في مقابل التركيز على « فضائل » المجتمعات الأخرى والغربية بالتحديد، وإجراء مقارنات تفتقر في أحيان كثيرة إلى المنطق وعناصر المقارنة العلمية، بالإضافة إلى فبركة بعض الفيديوهات التي تحط من قيمة بلدنا والرفع من قيمة البلدان الغربية بشكل يثير الغضب والاشمئزاز في نفس الوقت، وكمثال على ذلك فيديو تم ترويجها مؤخرا حيث يختار قِطٌّ الذهاب إلى فرنسا ويرفض البقاء في المغرب من خلال عملية الإيماء وتحريك الرأس. وكل هذا يؤدي مع مرور الوقت إلى التطبيع مع الأمر و من ثم إلى هزيمة داخلية تؤدي بدورها إلى تنمية الإحساس بالدونية لدى المواطن العادي بل في أحيان عديدة حتى عند النخبة، مما يشل قدرته على الإبداع وفي أحيان كثيرة حتى عن العمل، لأنه أصبح يؤمن بأنه مهما عمل فإن ذلك لا يغير من الواقع شيئا، وأن الحل الوحيد يكمن في الارتماء في حضن الآخر، وهو ما يصفه مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار التي عبر عنها أحد الأكاديميين بأنها « تعني أن طائفة من الناس تشعر أن بقاءها مرهون بوجود المستعمر وتأييده، فهي إذن ترضى أن تسير في ركابه وتعيش في كنفه وتدافع عنه وتحسِّن ما يستحسنه وتقبِّح ما يستقبحه لتستمتع بالبقاء تحت سيادته ». وهذا الوصف يُشْبِه إلى حد كبير ما أورده ابن خلدون في الموضوع حيث قال: « المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. »

وللتمثيل على ما سبق أورد مثالين:

  • الأول يتعلق بشراسة الدفاع عن فرنسة التعليم لدينا التي انخرط فيها عدد كبير من المواطنين من مختلف المشارب والطبقات على رأسها الطبقات الدنيا والمتوسطة، مع العلم أن جلهم يجهلون أو يتجاهلون الحيثيات التي تتحكم في جني الثمار التي يبشر بها المستفيدون المباشرون من الفرنسة والذين تتوفر لأبنائهم كل الظروف الملائمة من تجهيزات ضرورية وأساتذة مُتقنين للغة الفرنسية ومحتوى المادة المُدرَّسة وكذا الأساليب البيداغوجية، كما أن عدد التلاميذ في الفصل يحترم المعايير التربوية إلخ… وهو ما لا يتوفر في المدرسة العمومية، بل وحتى في عدد من مدارس التعليم الخصوصي التي يَلِجها أبناء الطبقة المتوسطة.
  • أما المثال الثاني فيتمثل في الرغبة الجانحة للهجرة نحو الغرب لدى مختلف شرائح المجتمع، حيث نجد من كان بإمكانه أن يُنجز مشروعا في بلده اعتمادا على القدر المالي الذي يَحْصُل عليه ببيع مصادر رزق عائلته وأقاربه، والذي يكون في غالب الأحيان مُحترما، يهاجر بطُرُقٍ أقل ما يقال عنها أنها تحط من كرامته، ليصبح بعد أن يَحط رحاله في الضفة الأخرى مُتسولا، أو متشردا ترتعد فرائسه كلما صادفه رجل يرتدي زيا يُخيل إليه أنه زي رجال الأمن.

إذا كان هذا يحصل بالنسبة للطبقة الفقيرة والمتوسطة اللتان يمكن أن نجد لهما أعذارا على اعتبار ضعف جانبهما المادي وعلى اعتبار أنهما طبقتان ذات ثقافة هشة، فماذا عن هجرة الأدمغة من أطباء ومهندسين و… الذين يفترض أن يكونوا هم الركيزة التي يتعين عليها أن تُغير الأوضاع بالاستماتة في الدفاع لا عن ترقية وضعيتهم المادية وتوفير الوسائل المثلى للعمل فحسب، وإنما بالدفاع عن الطبقة المحرومة، بالاستثمار في مشاريع ترتقي بالمجتمع إلى مصاف المجتمعات الراقية.

في البحث عن تفسير موضوعي لهذه الظاهرة لدى مختلف شرائح المجتمع وجدت أنها تندرج في جزء كبير منها ضمن مقولة ابن خلدون بخصوص تأثر المغلوب بالغالب وضمن مفهوم معامل القابلية للاستعمار لمالك بن نبي، دون إعفاء الحكومات المتعاقبة على هذا البلد الأمين من مسؤوليتها على هذا الوضع، ذلك أنها هي نفسها تندرج تحت مقولة ابن خلدون وتحت مُعامل القابلية للاستعمار، بالإضافة إلى المعامل الاستعماري لمالك بن نبي في كتابه شروط النهضة حيث يتكاثف المعاملان لتجريد الشعوب من مناعتها وتكريس التبعية لديها.

وحتى لا ييأس القارء، وزرعا للأمل في الأنفس فإن ما قاله لا ابن خلدون ولا بن نبي ليس بقاعدة عامة، وإلا لما استطاعت مجموعة من الشعوب التي نذكر من بينها الشعب الأماني من إعادة بنائه الداخلي من جهة بالانتصار على معامل القابلية للاستعمار (1) وعلى المعامل الاستعماري (1) بتحدي كل الشروط التي فرضها الحلفاء، بحيث لم يبق له من الوسائل إثر هذه الحرب المدمرة إلا عناصر ثلاثة وهي: الإنسان والتراب والزمن على حد تعبير مالك بن نبي في نفس المرجع السابق، وقد اعتمد الألمان في إعادة البناء هذه بالأساس على استثمار عامل الزمن بحيث فرضت الحكومة عام 1948 على الشعب الألماني كله نساء وأطفالا ورجالا التطوع يوميا بساعتين يؤديها كل فرد زيادة على عمله اليومي وبالمجان من أجل الصالح العام فقط (2)،

وجدير بنا كذلك أن نعتبر من كيفية  استقلال الولايات المتحدة عن إنجلترا، ولهذا الغرض لجأت للاقتباس من كتاب « أَوْقِفِ الأعذار » لصاحبه « واين دبليو داير » مع نوع من التصرف ما يلي: يقول واين: » إن الفكرة التي تراودك بأنك لست كُفؤا كفاية لتتقلد  منصبا أو لتواجه شخصا عدوانيا أو لتسافر بمفردك… هي مجرد فيروس عقلي يُمثل عُذرا جاهزا حينما تَسيء الظروف، وهذا ينسحب على المجتمع ككل » وهو الأمر الذي فسر به استعمار الولايات المتحدة من قبل بريطانيا ثم استقلالها عنها، ذلك أنه لإدامة الاستعمار كان البريطانيون يداومون على توجيه الرسالة التالية  « نحن أقوياء وأنتم أيها السذج المقلِّدون ضعفاء »  الشيء الذي كان يغذي عامل القابلية للاستعمار، إلا أن عقد مجموعة من الآباء المؤسسين العزم على تحدي المعتقد المتمثل في أنهم ضعفاء واستبداله بمعتقد آخر تمخضت عنه عادات تفكير جديدة أدت إلى الاستقلال وهي التي عبر عنها باتريك هنري أمام مؤتمر فيرجينيا سنة 1775″لن نكون ضعفاء إذا استغللنا هذه الوسائل التي وهبتها إيانا « الطبيعة » الاستغلال الأمثل، فلا يظفر بالمعارك الأقوياء فقط بل يظفر بها كذلك المتيقظون والنشطاء الشجعان ».

قد يقول قائل بأن التجربتين تشكلان حالة خاصة من حيث ظروفهما بصفة عامة، لكن الواقع الحالي يزخر بمِثْل هذه التجارب التي تنبني بالدرجة الأولى على التركيز على بناء الإنسان وتحريره من المعتقدات المتمثلة أساسا في الشعور بالدونية والنقص أمام الآخر، ولنا في الصين ودول آسيا وتركيا… أمثلة على ذلك.

إن التغيير نحو الأفضل صعب إلا أن الأصعب منه هو أن نبقى تابعين للغرب في مأكلنا ومشربنا ومركبنا وهو مستنزِِف لخيراتنا ويعمل بكل ما أوتي من قوة لتجريدنا من لغتنا وهويتنا، ولعمري لهذا نوع من الخُسْرِ الذي حذَّرنا منه الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز » وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) »، فهل سنعمل على أن نكون من الذين يؤمنون ويعملون الصالحات ويتواصون بالحق وبالصبر، أم أننا سنتمادى في انبهارنا بالغرب الذي يعمل بكل ما أوتي من قوة لإذلالنا واستغلالنا أبشع استغلال.

وختاما أقول لكل من يرغب في استعادة الأمة المغربية لعافيتها: لنعمل جميعا على الكف عن التمجيد الأعمى للغرب خاصة في يتعلق بالجنب الثقافي والقيمي، وأن نعمل بكل ما أوتينا من قوة على محاربة كل الأفكار السلبية وإبدالها بأخرى إيجابية والتحري وأخذ الحذر اللازم قبل الترويج بشكل عشوائي لكل ما تسوقه وسائل الإعلام بصفة عامة والتواصل الاجتماعي بصفة خاصة.

  • (1) كتاب شروط النهضة لمالك بن نبي ابتداء من ص 145 من النسخة الإلكترونية
  • (2) نفس المرجع ص 142

الحسن جرودي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *