الشجر الناري…نص سردي
الشجر الناري…
خضرة وسلاما على نهارا لفتنة…
أما بعد،
هذا عصر الشجر وأنا من كنت أربي الأحلام
في قفص استوطنته " ضاية" من ضايات الخصب والجمال يعمرها الماء وتسكنها الحياة حتى الثمالة. من يزورك يكتشف أن في هذا الزمن يعيش الكثير على تربية الخضرة والهواء في أقفاص من فولاذ…آنئذ أدركت سبب اختناق قلاع الصناعة في هذا الكوكب الآخذ بين صراعيه ومتاهاته كل جميل وطيب نحو النضوب والتلاشي…
بينما كانت أحلامي تسرح في حدائق بابل القادمة من الآتي استوقف نظري مشهد مغازلة الأرز للصفصاف في حاضرة الأطلس المفروشة بالورد، وقد ارتاحت العين إلى قدرتها لإنقاذ جنة الدنيا مما حل بها من ابتلاع التمساح المبني للتنين الأخضر بالتجوال عبر فضاءات الجمال الممتدة وإلقاء باقات الإعجاب لدوامات الهواء الملوث بالسموم فتنتصب عروق الرياحين غضة…أريجا معطرا بالجاذبية… وتستحيل أغصان الأرز صمامات أمان لفضاء ينبض بغزاة الحواضر الكبرى التي يقطنها مارسيومدن الصناعة… راقبت الأمر فانتهيت إلى أن الهواء والخضرة قادران على تطوير وسائل بقائهما ضمن دورة الحياة…
*- النضارة:" أعطوني أشجارا… أعطوني ينابيع ماء…أعطوني أسرارا لكي أبقى وتبقون".
*- التدبير الرشيد:" ترقبوا زلزالا يحرر زفرات الموت ويحيل حمم الماء الزلال إلى قناة للصرف."
بدأت العيون الزائرة تمد جنان الدنيا المبثوثة في جسد المدينة الصغيرة في حجمها الكبيرة بماضيها الجديد ومستقبلها القديم، بما تتشهى من استمتاع النظر وسلامة اليد واشتطاط المخيال…انطلقت كوكبة بشرية لجمع القوت للهواء والخضرة من كل جهات الدنيا لتدوم الحياة ويستمر الألق في تجاعيد البحيرة الخضراء…أخذوا يجمعون لفائف بلاستيكية سوداء شفافة كالغسق، داكنة كغلالة ظلامية في يوم شتوي وقد تكدست كأسرار تستدرج لتغادر الوسط ثم تمتصها أفواه الأديم كما يمتص عشاق الرياضة كوكاكولا في كرنفال حماية البيئة المتلفز…ثم تستطعمها الصناعة لتلفظها بعد ذلك بذورا تزرع الحياة بشكل مزيف…لا يتحرج الزائر لما تغادره أسراره إلى أنابيب مرقطة ككبرى ملتفة على خواء أن يفاقمك بصفير الفراغ في صوته وحركته الجريئة. اندهشت كيف يترك الناس أشياءهم بعضا منهم لتلهمه الوديان والسواقي التي باتت تصم آذان الغاب بصمتها المذهل… صحيح أن المزهريات تكاثرت على موائد البيوت، وفي رفوف المكاتب ، وتوسطت طاولات المؤتمرات والملتقيات…أجل إن الأقفاص الخضر تناسلت في الشرفات، وعلى أرصفة الشوارع الرئيسية… فوق القناطر والأبراج… لكن وسط كل قفص روضة خضراء تدور وتدور مع أمواج الهواء…وتلتف وتلتف إلى مالا نهاية كدالية أورقت عيونا ذاهلة… لم تتوقف شراهة الهواء في ابتلاع الوعي النظيف الموقع على الميثاق الأخضر… تساءل الحضور عبر التراسل اللاسلكي عن
السبب الذي دفع البشرية لترويض الطبيعة…وضع الخضرة في الأقفاص. هل هو الامتنان بالعالم القروي أم هوا لاستلاب بالتكنولوجيا النباتية فوق سطوح أعدها اليابانيون لتكون حدائق الدنيا الجديدة؟ أو هو التمرد على النظام الأخضر في زمن شد الحزام اللطيف بحبل المدونة الجديد؟ أم هي شراهة العصر ونهم الصناعة وتنامي حس المنفعة في عهد يحتد فيه التصادم بين قابيل وهابيل للظفر بقطيع الثقة وبشياه غنائم العولمة ؟؟
ذات قلق سمعت فحيحا زاحفا من الحواضر الكبرى يتقطع حسرة على زمن الجنان ثم رأيت تمساح الحضارة يزحف على التراب المندى ساحقا بحراشفه ضفائر السوالف الخضر…واأسفا على باروكة " لنجة"…وعلى قرون غزال الأطلس المدمى بفعل صراع الحضارات…ما إن سمعت الريم الخضر شراهة الهواء حتى ابتعدت هاربة إلى أدغال الجبال الشامخة بعد أن أضناها سعي الإنسان وهدد بقاءها بالجني والقطف لإشباع حاجاته حتى خيل إلينا أننا سنتحول في الألفيات القادمة إلى مخلوقات جبلية متحصنة لنتخلص من عبودية الهواء ووحشية الفعل الليبرالي الزاحف.
أما الأقحوان فينصت في ذهول إلى حداة النسيم فيفوح بحمرته التي كسرت القضبان فانكشف قفص حديقة الأمراء عن زرافات من الزوار يحصون الخسائر وينتشلون الجثث الحية المتراكمة فوق رماد الإهمال وفحيح الخراب. وأما هناك فتقبع بركة مائية أحالها الموقع والفصل إلى طاحونة تكد دوما لتمد مسارات الرياض بهواء بليل يعيد الروح إلى الجسد الخرب ويطلق العنان للسان البط والإوز لينشدا سيمفونية الماء: رق…رق…رق فتؤثث الرقرقة فراغ السمع بإنشاد عذب تضبط إيقاعاته قصيدة خضراء صاغت أبياتها صفوف البط والإوز ووضعت قافيتها باقتدار كتاكيت تجيد الاستمالة أما رويها فلوحة حركية متناغمة سرقت قطع الحلوى وصفائح البيمو من أفواه البراءة.
ليس ثمة من ثلج ولا دعابات من السماء التي عجزت الأشجار النارية عن حملها…ليس ثمة من لون ولا طعم… غير فعل السحر الذي يضحك الأديم…كان الضحك هنا من فضة وهناك غدا صمتا بأغوار يلف نقيق الضفادع القابعة بدون أمن ولا أمان في بركة أحالها الإهمال إلى بقعة سوداء كبحر أفرغت فيه ناقلة بترول حمولتها فتعالت الاحتجاجات وملأ التنديد سكينة الطرقات ضجيجا…أما مذاق زهور جنائنها ونفحات شذى حدائقها فقد تحلل في قوارير تباع في أسواق الماكرو الممتازة وبقيت ذرات الماء كالمرايا تعكس وجوهنا التي نال منها العمران ليتحول المشهد إلى نسيان لاهب ينسج بخيوط الإتلاف والقذارة عنكبوتا تحتضن أحزاننا ومباهجنا فتمد وصالنا بطعم الهجران.
2 Comments
اولا اشد بحرارة على المبدع الأخ العزيز واقول له ان النص السردي /الشجر الناري/ من خلال الغوص في مكامنه يتضح انه نص يطير بنا الى عالم كله صفاء كله حنين واحساس بالراحة في عالم بعيد التكالب المادي والقهر والطغيان
bravo
lkatib dialna