Home»Correspondants»قصة قصيرة / عسرة

قصة قصيرة / عسرة

0
Shares
PinterestGoogle+

قصة قصيرة  » عسرة  »
ذ. محمد مباركي .

ثانوية إسلي التأهيلية . وجدة

زمجرت الرياح الساخنة حاملة ذرات التربة العزيزة على قلوب الفلاحين ، فقرحت الأعين و جففت الأفواه ، و شققت الشفاه، و فحمت الوجوه ،و أصمت الآذان ، و بدت أجسادهم، في أسمال متآكلة، جافة كجفاف هذه السنوات العجاف ، أكلت كل مخزون الحبوب و الدواب و الماشية ، و القرويون يضربون كفا بكف ، يندبون واقعهم المر ، يبتهلون إلى رب السماء و الأرض ، فلا السماء أمطرت الغيث و لا الأرض أنبتت الزرع إلا من الأشواك و السدر. أعيى الانتظار الكثير منهم ، فحزم ما بقي من متاع على ظهر دابة عرجاء و رحل لا يدري إلى أين ..
تحولت الأيام إلى قطعت من حديد صلب لا تلين، تصلبت معها الأنفس و قسمات الوجوه الذابلة من المخمسات .. نفقت الخراف و النعاج ، و قبل نفوق بعضها ذبحوها فما سالت الدماء كما كانت تسيل غزيرة ، و رغم ذالك حولوا لحومها إلى قديد مبخر ، يكذبون به على بطون خاوية كقرب الماء ، يتحول إلى مغص تتقيأه الأطفال و النساء لتبكي بعد ذلك من الجوع .
و يخرج هذا القروي الملقب في دواره بالشيخ إلى الغابة المجاورة لعله يصطاد طريدة ثعلبا كانت أو ذئبا أو أرنبا أو خنزيرا بريا لا يهم ، فقد أفتى فتواه في نازلة الجوع ، فمع الجوع تتعطل الشرائع و الله غفور رحيم . و مع المساء عاد خائبا مصمما على العودة في الغد لتفقد فخاخ كان قد نصبها لعلها تتلقف صيدا يشبع من لحمها هذا الطوى الجائر جور هذا الجذب الحاقد .
تذكر الأيام الخوالي لما ارتوت الأرض بجود السماء ، و أينعت بالزرع و شقائق النعمان ، و رقصت الحملان في الروابي ، و شبعت البطون و اعتلت الحمرة الوجوه ، و أقيمت الأفراح لأصغر المناسبات ، و جنت القدور فوق الكوانين ، و صدحت النسوة بالغناء عند الغدير .

و تساءل أين سيارات الأجرة و أفواج الضيوف التي كانت تقل ؟ تشرئب لها الأعناق و تلتهمها أعين القرويين . من بيت إلى آخر ،ضيافة و ضيافة ، شواء و خبز و عسل و جوز .
وقف « الشيخ » ينظر إلى نعجته بعينين مهزومتين ،كانت مفخرة قطيعه ، بها حصل على جائزة أحسن مربي هذه السلالة ، و هي عجماء لا تكاد تخطو خطوتين حتى تسقط من الوهن ، تمد رأسها بين قائمتيها الأماميتين لتنام نومتها الأخيرة ، يهز رأسه و يحوقل مبتعدا إلى الغابة إذ الفخاخ منصوبة .. تفقدها واحدة واحدة فلم يعثر إلا على بقايا دماء ، فتيقن أن أحدهم قد مر من هنا .. ابتسم و لم يحنق . لعله الجوع استبد بصاحبه أكثر .. أعاد نصبها ثانية لعله يفوز بصيد في غفلة من صاحبه . و جلس بعيدا كاتما أنفاسه يراقبها متخفيا في  » نوالة  » بناها من أغصان البلوط ، و سرح في ذكريات يوم عسير لم ينساه أبدا .

تنازل عن كبرياءه القروي ، قاصدا أخاه الأصغر في المدينة ، متجشما عناء الطريق على دابة أضناها الجوع .
طرق الباب طرقا خفيفا ، و الوقت بعيد الفجر ، و الكل نيام لا يدركون أن العالم يملكه المستيقظون باكرا ، أطل عليه وجه أخيه المصفر من كوة الباب الحديدي ، و سأل  » من ؟  » لدغه السؤال ، و أحس بأذنيه تتعرقان من الخجل . مد له أخوه أطراف أصابعه مصافحا ، علت وجهه مسحة من الامتعاض حاول أن يخفيها . و كان الاستقبال باردا كبرودة ذالك الفجر ،لم تشجعه على البوح بما جاء من أجله . جاء يشكو من قلة ذات اليد طامعا في مال يقترضه أو مئونة يجود بها عليه أخوه ، يسكت بها شر الجوع . إلا أن هذا الأخ بادر بالشكوى من ضيق الحال و كثرة العيال ، فصمم  » الشيخ  » ألا يفسد سؤاله ، و ادعى أنه جاء لزيارته قبل ذهابه إلى سوق المدينة .
و عاد خائبا كما جاء . و في طريق العودة ، نظر في كل الاتجاهات فوجد نفسه وحيدا وراء دابته ، فأسلم العنان للدموع تنهمر، كالغيث الذي انحبس ثلاث سنوات متتالية ، بللت لحيته الكثة المتمردة . قبض على حبات مسبحته يذكر ربه ، فتدحرجت الغصة من حلقه و تبددت مع شوق الحمد و التهليل ، و أحس بالأرض تنطوي تحت حوافر الدابة التي جدت في السير ، ليسقط أخاه الأصغر من الحساب ، و تساءل عن الأخوة كيف تشيخ و تنسحق مع التفرد و حب الذات ، فتتحول إلى رماد تذروه رياح الأنا . أ

هو أخوه الأصغر الذي كفله بعد وفاة والدهما ، صرف عن تكاليف دراسته مالا كان في أمس الحاجة إليه ؟ حتى عاد بالشهادة ، فصنع مأدبة دعا إليها المقيم و العابر، و فرح بوظيفته الصغيرة ، و ها هو يرده صفر اليدين خائبا باكيا كالطفل . فيا لؤم أهل المدينة كيف يتنكرون لعزيز قوم قد ذل .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *